للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[النفوس العظيمة لا يعوقها عن هدفها عائق]

كان عمير بن أبي وقاص رضي الله عنه شاباً لا يتجاوز عمره (١٦) عاماً، فهو في تعريف منظمة الصحة العالمية طفل؛ لأن الأطفال في تعريفهم تحت (١٨) سنة، وفي تعريف القيم والأخلاق والمبادئ والعقائد يعد من سادة الرجال رضي الله عنهم، تقدم رضي الله عنه ليجاهد مع المجاهدين في بدر، لكن خاف أن يرده الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لا يزال صغيراً، فأخذ يتوارى بين القوم حتى لا يراه الرسول عليه الصلاة والسلام فيرده، فرآه أخوه المجاهد العظيم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

قال له: ما يحملك على هذا؟ قال: أخاف أن يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستصغرني ويردني، وأنا أحب الخروج لعل الله يرزقني الشهادة.

سبحان الله! كانت لديه أمنية حلوة أن يموت وعمره لا يتجاوز (١٦) سنة، رآه الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يختبئ منه، فأشفق عليه من القتال ورده فبكى عمير؛ لأنه ستضيع عليه فرصة الموت في سبيل الله، فرق له صلى الله عليه وسلم لما رآه يبكي وسمح له بالجهاد، فجاهد واشتاق بصدق للشهادة، فاستشهد ودخل الجنة.

هكذا فهم عمير بن أبي وقاص الجنة وهو لم يكلف إلا منذ سنتين أو ثلاث سنوات، فهم ما يعجز عن فهمه الأشياخ والحكماء والعباقرة، فيا له من منهج تربوي إصلاحي واقعي لا يرقى إليه أي منهج من المناهج! وهذا عوف بن الحارث رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! ما يضحك الرب من عبده؟ قال: غمسه يده في العدو حاسراً) يعني: من غير درع، وهذا فيه دلالة على قوة البأس وعدم الخوف من الموت، ومعلوم أن هذا التصرف يلقي الرهبة في قلوب العدو، هنا ألقى عوف درعه وقاتل حاسراً حتى استشهد رضي الله عنه ودخل الجنة.

إن موضوع الجنة لم يكن غائباً أبداً عن أذهان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم؛ لذلك انتصروا.

إن الجيش الإسلامي قبل أن يأتي إلى بدر كان يبحث عن الجنة، وفي أرض بدر كذلك كان يبحث عن الجنة، وبعد بدر كذلك يسأل عن الجنة.

فقبل الخروج إلى بدر أراد سعد بن خيثمة وأبوه خيثمة رضي الله عنهما الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر، لكن كان تحت رعايتهما بنات كثيرات، فلابد أن يخرج واحد منهما، ويقعد الآخر لرعاية البنات، لكن الاثنين يريدان أن يخرجا للقتال، يطلب الاثنان الجنة بصدق، فلم يتنازل أحد منهما، فقررا أن يعملا قرعة، فخرج سهم سعد بن خيثمة، فتحسر أبوه حسرة حقيقية، فقال لابنه في توسل: يا بني! آثرني اليوم -أي: اتركني أخرج- فضلني على نفسك، لكن سعداً رضي الله عنه وأرضاه رد بجواب يفسر سبباً من أسباب الجيش المنصور، قال في أدب: يا أبي! لو كان غير الجنة لفعلت، لا أستطيع.

وخرج سعد بن خيثمة بهذه الروح الصادقة وقاتل رضي الله عنه حتى استشهد، ودخل الجنة التي يريد.

واللطيف في الأمر أن أباه خيثمة خرج في أحد بعد بدر بسنة، واستشهد أيضاً! وهذه أم حارثة بن سراقة رضي الله عنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله عن ابنها حارثة بن سراقة استشهد في بدر وهو شاب صغير، مات مقتولاً، وفي مثل هذا الموقف تطيش عقول وتضطرب أفئدة ويتزلزل رجال ونساء، لكن أم حارثة أتت تسأل عن شيء محدد، قالت: (يا رسول الله! قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى تر ما أصنع؟ فقال لها الرسول عليه الصلاة والسلام: يا أم حارثة! إنها جنان، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى)، الله أكبر! حارثة بن سراقة رضي الله عنه وأرضاه في الفردوس الأعلى؛ لأنه مات شهيداً في سبيل الله، والشهيد كما ذكر صلى الله عليه وسلم من يموت مقبلاً غير مدبر محتسباً صابراً، هذه صفات الشهداء الذين في الجنة، وهذه كلها كانت موجودة في حارثة، لذلك بلغ الفردوس الأعلى، واستراحت أم حارثة وتقبلت أمر موت ابنها الشاب بسهولة شديدة، وصبر واحتساب، بل وبسعادة رضي الله عنها؛ لأنه من يحب أحداً يحب له الخير أيضاً، وليس هناك خير أفضل من الجنة.