للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[محبة بعض الصحابة للدنيا ومخالفتهم للأمر النبوي بسببها]

فغزوة أحد مصيبة ولا شك في ذلك، وليست المصيبة في استشهاد سبعين من الصحابة؛ لأن هؤلاء من أكرم الخلق على الله عز وجل، وقد نالوا درجات عالية جداً، واصطفاهم الله سبحانه وتعالى، يقول الله في الكتاب تعليقاً على غزوة أحد: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:١٤٠] فهؤلاء اختارهم الله؛ ليكونوا من أفضل الناس، إنما المصيبة في شيء آخر، المصيبة تكمن في اضطراب بعض المفاهيم عند المسلمين، وإن كان اضطراباً حصل في لحظة من لحظات القتال وغير كل شيء، وهذه المصيبة هي تغلب الدنيا في قلوب بعض الصحابة، فالصحابة منذ بدء القتال وهم يقاتلون في سبيل الله عز وجل، يقاتلون من أجل الجنة، وفي لحظة انقلبت الموازين، وأصبح فريق منهم يقاتل من أجل الدنيا، وقد وصل تغلغل حب الدنيا في قلوبهم إلى أن يخالفوا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم مخالفة صريحة متعمدة، وراجع الكلام الذي قاله صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن جبير ولفرقة الرماة، فهو كلام في منتهى الوضوح، توجيه أول وثان وثالث ورابع وخامس وسادس، فالتوجيه الأول: (انضح عنا الخيل بالنبل) إلى آخر كلامه صلى الله عليه وسلم.

وأثناء القتال يلتف خالد بن الوليد حول الجيش ثلاث مرات، ويستطيعون أن يصدوه، وبذلك عرفوا أن هذا المكان خطر وصعب ومهم بالنسبة للمشركين، وعرفوا أن لهم دوراً كبيراً جداً في صد المشركين.

إذاً: ستة توجيهات من الرسول عليه الصلاة والسلام، وثلاثة توجيهات من خالد بن الوليد بلفته أنظار المسلمين إلى أهمية المكان الذي يقفون عليه.

هذه تسعة توجيهات.

والتوجيه العاشر جاء من عبد الله بن جبير رضي الله عنه وأرضاه، عندما أرادوا النزول قائلين: الغنيمة الغنيمة، وقف لهم وقال: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ومع ذلك لم يستمعوا.

فكل هذا يثبت أن المخالفة كانت متعمدة وصريحة من أجل الدنيا، وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه: (والله لا أخشى عليكم الفقر، ولكن أخشى عليكم الدنيا).

والله سبحانه وتعالى وصف ذلك في كتابه تعليقاً على أحد.

قال: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران:١٥٢].

وبسبب الدنيا صار المسلمون فريقين: الفريق الأول: أنس بن النضر وثابت بن الدحداح وأبي طلحة وغيرهم من الذين قاتلوا حتى النهاية، فمنهم من قاتل وثبت حتى شهادته، ومنهم من قاتل حول الرسول عليه الصلاة والسلام لحمايته، ما نكصوا على أعقابهم وما فروا.

والفريق الثاني: هم الذين تغلغلت الدنيا في قلوبهم، وغير مقبول للجيش المسلم أن يصل حب الدنيا إلى قلوب بعضه، فيدفعه هذا الحب إلى المخالفة.

كذلك في موقعة بدر حصلت أيضاً مخالفة من أجل الدنيا، قال الله عز وجل في صدر سورة الأنفال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال:١] يتكلم عن مشكلة الغنائم التي دخلت في قلوب الصحابة، فوجههم الرسول عليه الصلاة والسلام إلى اتباع كلام رب العالمين سبحانه وتعالى، وانصاع الجميع لكلام رب العالمين سبحانه وتعالى، وسلموا أنفسهم له، ووزع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم بالطريقة التي شرعها رب العالمين سبحانه وتعالى، لكن في غزوة أحد حذرهم الرسول صلى الله عليه وسلم ست مرات، ومع ذلك خالفوا، فكانت مخالفة متعمدة فلابد لها من مصيبة، وإن كان الجيش الذي خالف هو جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: ما كنت أحسب أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا، حتى نزل فينا ما نزل: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران:١٥٢].

فالمصيبة التي عمت الجيش كله بسبب مجموعة من المسلمين أصابتهم الدنيا؛ لأن هذا المرض قد ظهر فيهم من قبل، فقد كان متغلغلاً قبل غزوة أحد، فكان لابد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتفتيش عن إيمان الآخرين، وطاعتهم لله عز وجل وعبادتهم له والتزامهم بمنهجه سبحانه وتعالى، لكن عندما تسأل الإنسان عن دنياه ولا تسأله عن آخرته توثر فيه تدريجياً، حتى تصير مصيبة كبيرة تعم المسلمين جميعاً.

فالوضع الذي كان في أحد هو مصيبة تمكن الدنيا من القلب حتى تدفع المسلم إلى المخالفة الصريحة المتعمدة لكلام الحبيب صلى الله عليه وسلم.