للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نقض بني قريظة للعهد]

خرج مع المشركين أحد زعماء اليهود واسمه حيي بن أخطب، وكان من أشدهم كفراً وحقداً وغلاً وحسداً، قال لهم: هناك حل واحد وهو بنو قريظة.

وبنو قريظة على الجنوب الشرقي للمدينة المنورة، لو فتحوا الأبواب للمشركين لدخول المدينة لانتهت المدينة، فما بالكم لو حاربوا مع المشركين؟ فعندما سمع المشركون الفكرة من حيي بن أخطب أعجبتهم، وبقي عليهم فقط أن يقنعوا بني قريظة بنقض العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسماح للمشركين بدخول المدينة لاستئصال الشعب المسلم بكامله، وذهب حيي بن أخطب؛ لكي يؤدي المهمة القذرة، والتقى بزعيم بني قريظة كعب بن أسد، فقال له حيي: إني قد جئتك يا كعب! بعز الدهر، جئتك بقريش على قادتها وسادتها، وبغطفان على سادتها وقادتها قد عاهدوني وعاقدوني على ألا يبرحوا حتى نستأصل محمداً ومن معه، فقال له كعب: جئتني والله بذل الدهر، ويحك يا حيي! فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا صدقاً ووفاءً، لكن حيياً استمر في الكلام مع كعب وزين له الأمر، ثم وعده إن تخلفت قريش وغطفان عنه أن يدخل معه في حصنه، ويتحمل معه ما يحدث بعد ذلك، وتحت تأثير شيطان بني النضير وافق شيطان بني قريظة، وقرر التحالف مع المشركين لتنفيذ ما ذكره حيي، وهو ألا يبرحوا حتى يستأصلوا محمداً ومن معه، وكان التحالف ليس فقط في أن يفتحوا المدينة، وإنما أيضاً ليقوموا بتجهيز فرق عسكرية للحرب ضد المسلمين.

وصارت المدينة على أبواب هلكة قريبة، ماذا يحدث لو انساح عشرة آلاف مسلح بالإضافة إلى يهود بني قريظة إلى داخل المدينة؟ لا أحسب أن أحداً يبقى حياً في المدينة المنورة، لا بد أن تضع هذا في بالك؛ لتفهم رد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم على الخيانة التي حصلت من بني قريظة، ونقلت المخابرات الإسلامية هذا الخبر، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم خائفاً من خيانة اليهود، وجعل عليهم مراقبة.

فهل من قبيل المصادفة أن يخون اليهود في تعاملهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هل من قبيل المصادفة أن يظهر الانحراف في بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة؟ لا شك أن هذا ليس مصادفة أبداً، ولا شك أن هذا واقع لا بد أن نُدركه جميعاً، فقد ذكره ربنا سبحانه وتعالى في كتابه حين قال: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:١٠٠] وانظر المعاني التي تأتي في ذهنك عندما تسمع اللفظ القرآني {أَوَكُلَّمَا} [البقرة:١٠٠] كل مرة هكذا؟ هل توجد مرة فيها وفاء لليهود؟ هل توجد مرة فيها أمانة؟ {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة:١٠٠] فالكلام هذا ليس مصادفة أبداً، بل هو قاعدة، ولا بد أن نعرفها جيداً.

وصل الخبر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقبل أن يأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم أي رد فعل أراد أن يستوثق من الخبر، فأرسل مجموعة من الصحابة للتأكد، فيهم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وعبد الله بن رواحة وغيرهم، وقال لهم: (انطلقوا حتى تنظروا: أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم، أم لا؟ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس) أي: إن كانوا حقاً قد غدروا فلا تذكروا ذلك أمام الناس؛ لكي لا يحصل إحباط (وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس).

أما المسلمون اليوم فينشرون أخباراً وخططاً وتسليحاتٍ وأعداداً وإمكانياتٍ للعدو على صفحات الجرائد وعلى شاشات التلفاز، فيشعر المسلم المشاهد لهذه الأخبار أنه لا يوجد أمل ولا توجد فائدة أبداً.

لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا أنه ليس كل ما يُعرف يقال، وذهبت المجموعة الإسلامية إلى بني قريظة، وتكلموا معهم مباشرة: أما زلتم على العهد؟ فجهر يهود بني قريظة بالسوء، وسبوا الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد، ثم رجع الصحابة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقالوا: عضل والقارة، أي: غدروا كغدر عضل والقارة، وهي القبائل التي غدرت بالمسلمين عند ماء الرجيع، فحزن الرسول صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً لهذا الخبر، حتى إنه تقنع بثوبه -أي: غطى رأسه بالثوب- ومكث طويلاً صلى الله عليه وسلم يفكر ما الذي سيحصل؟ وبعد ذلك رفع رأسه فجأة، وقال للمسلمين بصوت عال: (الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين! بفتح الله ونصره) وهو يحاول قدر المستطاع أن يرفع من همة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.

وعلى الرغم من محاولات الرسول عليه الصلاة والسلام لتجنب انتشار الخبر إلا أنه شاء الله سبحانه وتعالى للخبر أن ينتشر، وهذا أيضاً له حكمة واضحة، وهو الابتلاء والتنقية والتمييز بين صفوف المسلمين وصفوف ال