للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أهمية نزول جبريل بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء]

بعد (٤٠) سنة من الحياة في مكة جاء اليوم الذي ينزل فيه جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في خلوته في غار حراء، فمجيء جبريل عليه السلام لحظة خالدة، لحظة غير متكررة في تاريخ الأرض، هذا الموقف لم يحصل في الأرض منذ (٦٠٠) سنة، وهي الفترة بين الرسول وبين عيسى عليه السلام، فقد بعث الرسول على فترة من الرسل، وعندما يموت الرسول صلى الله عليه وسلم فإن هذا الموقف لن يتكرر حدث فريد فعلاً! دخل جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الغار في هيئة رجل، ودخوله على هذه الهيئة في الجبل ليس مفزعاً في حد ذاته، نعم، الرجل غريب، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يعرفه، لكن ما سبب خوف الرسول صلى الله عليه وسلم من رؤية جبريل عليه السلام أول مرة؟ يقول صلى الله عليه وسلم: (دخل علي جبريل فقال: اقرأ)، هكذا بدون مقدمات، لم يعرف بنفسه، لم يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه، وإنما خاطبه وكأنه يعرفه، يقول له: اقرأ، والرسول لا يدري أي شيء يقرأ؛ لأنه أمي لا يعرف القراءة والكتابة، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم بأدبه الجم: (ما أنا بقارئ)، أي: أنا لا أستطيع أن أقرأ، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يمكنه أن يقول له: من أنت؟ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم بهت بدخول الرجل عليه فجأة بذلك السؤال، ثم إن هذا الرجل احتضنه بشدة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد)، والرسول صلى الله عليه وسلم ليس بالضعيف، بل قوي البنية، معنى ذلك أن هذا الرجل قوته هائلة، ثم أرسله وتركه، وقال له: (اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني)، كل هذا العنف في تبليغ الأمر، حتى يعلم أنه في حقيقة وليس في حلم، ثم قال له بعدما أطلقه في المرة الثالثة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:١ - ٥]، ثم اختفى بعدما قال له هذه الكلمات.

فالرسول صلى الله عليه وسلم أبلغ العرب مطلقاً وأفصحهم، وبالتأكيد أنه عرف منذ اللحظة الأولى أن هذا ليس من كلام البشر، {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:١ - ٢]، هذه أول مرة ينزل فيها قرآن على الأرض.

أيضاً هذا الرجل الذي جاءه كان يتحدث عن الإله الذي يبحث عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ زمن، يتحدث عن الإله الذي يخلق ويتكرم ويعلم.

كما أن الرجل لم يخبره عن أي شيء يريده منه، لم يخبره أنه سيصبح رسولاً، بل فقط قرأ عليه هذه الآيات التي لم تسمع من قبل على وجه الأرض ثم اختفى، وكان يغطه في كل مرة بشدة حتى يبلغ منه الجهد، حتى إنه قال من شدة الضمة: (يا خديجة لقد خشيت على نفسي).

كل هذه الأمور مجتمعة أدت إلى خوف الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم ذهب يجري إلى بيته قاطعاً اعتكافه باحثاً عن الأمان، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها تصف هذا الموقف: (رجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: بهذه الآيات الخمس- يرجف فؤاده)، لماذا يحدث هذا الرعب الشديد والهلع الكبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أولاً: لإثبات بشرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنفس هذا الموقف حصل مع سيدنا موسى عليه السلام، فقد خاف وجرى، فهو بشر له أحاسيس البشر.

ثانياً: إثبات عدم انتظار رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر النبوة، لكنه خاف لما جاءه جبريل عليه السلام، ثم هي التهيئة والإعداد والتشويق للأمر العظيم الذي سيأتي، وبالفعل الرسول بعد هذا الأمر كان يخرج مراراً إلى الجبال لعله يقابل ذلك الرجل الذي جاءه في الغار، بعدما كان خائفاً أصبح مشتاقاً إلى قدوم جبريل عليه السلام.