للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مظاهر قوة المسلمين في عمرة القضاء]

هذا حدث من أعظم أحداث السيرة النبوية، وهذه العمرة تمهيد نفسي رائع لما سيحدث بعد ذلك بعام، عندما يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً، ولعل قضية فتح مكة تكون غير متوقعة عند كثير من الصحابة؛ لأن مكة أعظم مدن الجزيرة، بل أعظم مدن العالم، وقريش هي أعز قبيلة في العرب، فكون المسلمين سيأتون في جيش لاقتحام مكة، ويغزون قريشاً في عقر دارها هذا أمر بعيد جداً في تصور الكثيرين، لكن بعد هذه العمرة أصبح الوضع مختلفاً، رأى المسلمون أهل مكة يفسحون لهم الطريق دون مقاومة، وليس هذا فقط، بل إنهم يتركونهم ثلاثة أيام متواصلة في داخل مكة، يكتفون فقط بالمراقبة بحسرة، وهم لا يستطيعون فعل أي شيء، لا شك أن المسلمين لاحظوا الانبهار الذي كان عند القرشيين من رؤية قوة المسلمين؛ ولنا مع هذا الانبهار من أهل قريش وقفة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعرف أن هناك أناساً كثيرين لا ينبهرون إلا بالقوة، ولا يحترمون غيرهم إلا إذا وجدوه صلباً شديداً عزيزاً، وصدق عثمان بن عفان رضي الله عنه إذ يقول: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.

فأهل مكة عند سماع الآيات الجليلة الباهرة للقرآن الكريم لم يرتدعوا، مع تمام علمهم أن القرآن معجز وأنه فوق طاقة البشر، وأنهم لا يستطيعون الإتيان بسورة من مثله ولو اجتمعوا لذلك، لم يرتدعوا بهذا القرآن العظيم، لكن على الناحية الأخرى وقفوا منبهرين تماماً أمام قوة المسلمين وجلد المسلمين، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يعرف هذا جيداً، وحرص تمام الحرص على إبراز قوة المسلمين قدر المستطاع صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك مثلاً: أولاً: جاء عليه الصلاة والسلام بالسلاح الكامل من المدينة المنورة، لكنه أبقى السلاح خارج مكة مع سرية من الصحابة، وكانوا مائتي رجل، وكان عليهم محمد بن مسلمة رضي الله عنه، وبعد أن انتهى صلى الله عليه وسلم ومن معه من العمرة تبادل هؤلاء الحراس مع مجموعة أخرى من المسلمين وأدوا العمرة كغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فالمسلمون جاءوا من المدينة إلى مكة بالسلاح؛ لأنهم يعرفون أن هناك عيوناً لقريش ترقب الموقف، فلما رأت قريش الرسول صلى الله عليه وسلم معه قوة السلاح وقوة جيوش غير معتمرة، أرسلوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك الأمر، وأخبروه أنه قد وعدهم أن يدخل مكة فقط بسلاح المسافر، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أنه عند وعده، وأنه سيترك السلاح خارج مكة، ولكنه لا يأمن على نفسه ولا على جيشه من غدر قريش؛ فلذلك أخذ بالأسباب صلى الله عليه وسلم، فأتى بعدة كاملة؛ ليلقي الرهبة في قلوب المشركين.

ثانياً: دخل الرسول عليه الصلاة والسلام مكة راكباً ناقته القصواء، والمسلمون حوله يشهرون سيوفهم لحمايته، تصور كون الرسول صلى الله عليه وسلم في وسط المسلمين وهم محيطون به كما يحيط السوار بالمعصم؛ حماية له من المشركين أو من غدر قريش.

إذاً: هذا منظر مهيب جداً.

ثالثاً: دخل المسلمون مكة وهم يلبون جميعاً في صوت واحد: لبيك اللهم لبيك، وأنا أريد منك أن تتصور أن ألفين من الرجال الأشداء يلبون ويرفعون أصواتهم بالتلبية وهم يدخلون مكة، أول مرة ترى مكة منظراً كهذا.

رابعاً: يتقدم صفوف المسلمين عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه وهو ينشد الشعر، نحن نستغرب ونقول: لماذا هذا الشعر في مثل هذا الموقف؟! لقد كان الشعر عند العرب وسيلة الإعلام الأولى، إذا قيل الشعر وقف الجميع ليستمع، وكان عبد الله بن رواحة يعرف جيداً هذا الموقف، واختار من شعره ما يناسب إظهار القوة، ومما قاله في شعره ما جاء في سنن الترمذي والنسائي عن أنس رضي الله عنه وأرضاه، والحديث حسن صحيح قال: خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تنزيله ضرباً يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله إلى آخر الأبيات، والمضمون لهذا الشعر أن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه يفسح الطريق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلنها واضحة صريحة أنه سيضرب كل من سوّلت له نفسه الغدر به صلى الله عليه وسلم.

فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يستوعب هذا الذي فعله عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، فقال له: (وفي حرم الله تقول الشعر؟) لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان موافقاً لفعل عبد الله بن رواحة؛ لأنه مدرك لعقلية العرب عامة ولعقلية قريش خاصة، فقال له: (خل عنه يا عمر، فلهي أسرع فيهم من نضح النبل) يعني: هذه الأبيات أسرع في قريش من رمي النبل والسهام، فكان هذا الأمر فعلاً من أقوى الأسلحة التي وجهت لقريش.

خامساً: صلى الرسول عليه الصلاة والسلام بالمسلمين الصلوات الخمس في الأيام الثلاثة بصورة جماعية في الحرم، وتصور صلاة ألفين من الرجال غير النساء والصبيان بطريقة واحدة بتكبير وتحميد، وبقيادة منظمة ل