للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مجيء النصر والتمكين للمسلمين من حيث يكرهون]

السنة الثالثة: لا يأتي النصر فقط من حيث لا يتوقع المسلمون، بل يأتي من حيث يكرهون.

وهذا غريب جداً، لكنه متكرر حتى صار سنة، فـ طالوت رحمه الله ومن معه من المؤمنين كرهوا لقاء جالوت وجنوده، لكن جعل الله عز وجل النصر في هذا اللقاء، كذلك كره المسلمون لقاء المشركين في بدر، فجعل الله عز وجل فيه النصر، يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال:٥] فكان يوم الفرقان.

وكره المسلمون تحزب الأحزاب حول المدينة قال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:١٠] لكن كان فيه خير، والرسول صلى الله عليه وسلم بعد الأحزاب قال: (الآن نغزوهم ولا يغزونا).

وكره المسلمون صلح الحديبية، وقالوا: (لم نُعط الدنية في ديننا؟)، وكان فيه الخير كل الخير، وقد رأينا تفصيلات الخير الذي تلا صلح الحديبية.

وكره المسلمون قتل أخيهم وصاحبهم وحبيبهم الحارث بن عمير رضي الله عنه سفير الرسول عليه الصلاة والسلام إلى عظيم بصرى، ولكن كان من وراء هذا القتل انتصار مؤتة.

كذلك في قصتنا الآن كره المسلمون نقض بني بكر وقريش للعهد، لا شك أنهم كرهوه، لا شك أنهم يريدون الهدنة أن تمتد عشر سنوات وأكثر؛ لأنهم رأوا في أقل من السنتين خيرات كثيرة جداً، فكيف إذا امتد الأمر لأكثر من ذلك؟ رأوا أعداد المسلمين تتزايد بكثرة في زمن الهدنة والأمن وغياب الحرب، لكن الآن بعد هذا النقض قد تحدث حرب وقد يحدث اضطراب وقلق في الجزيرة، وقد يخاف الناس، وقد تتأثر الدعوة، وقد تغزو قريش المدينة، ويمكن أن تحدث مشاكل لا حصر لها.

ونحن نكره القتال الآن، ولا نريد أن يحدث أي حرب في هذا الوقت، ونحب الهدنة، لكن أن يحدث ما نكره قصراً ورغماً عن أنوفنا، ثم يأتي النصر والفتح والتمكين من خلال الحدث الذي نكرهه هذا أمر عجب!! لماذا هذه السُّنة؟ لماذا يأتي النصر من حيث نكره؟ لماذا لا يأتي النصر من حيث نحب، أو بالطريقة التي نريد، أو بالطريقة التي نخطط لها؟ لهذه السنة هدف واضح جداً، وهذا الهدف هو أن الله عز وجل لا يريد لنا أن نُفتن بنصرنا، ولا يريد لنا أن نعتقد أن النصر إنما جاء لحسن تدبيرنا، ولدقة خطتنا، ولبراعة أدائنا، ولذكاء عقولنا، ولسرعة تصرفنا، وحتى لا ننسى أن الذي نصرنا هو الله القوي سبحانه وتعالى، لذلك يأتي النصر من حيث لا نحتسب، بل ومن حيث نكره؛ ليعترف الجميع أن الناصر هو الله عز وجل، ويأتي النصر من طريق عكس التخطيط الذي رسمت، ومن طريق عكس الطريق الذي رجوت.

وهذا ليس معناه أننا لا نخطط أبداً، بل على العكس إذا لم تخطط وتجتهد لا يأتي النصر مطلقاً، لا بد أن تضع ألف خطة جادة لتحقيق النصر؛ لأن النصر سيأتي بالخطة رقم (١٠٠١) كما تقدم، أي: يأتي النصر بالخطة التي لم تخططها.

فالألف خطة هذه مطلوبة لإثبات أنك قد أخذت بالأسباب، ولتكون مستحقاً لرضا رب العالمين سبحانه وتعالى، ومن ثم تستحق نصر الله عز وجل، لكن النصر يأتي بالخطة التي لم تحسب لها حساباً؛ لكي تعود بالفضل في النهاية لله عز وجل، ولهذا يقول الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:١] النصر نصر الله عز وجل، والفتح فتح رب العالمين للمسلمين، {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:١ - ٢].

كيف سيكون رد المسلمين في حالة رؤيتهم للفتح والنصر؟ وضح لنا سبحانه وتعالى في هذه السورة القصيرة المعجزة سورة النصر أن على المسلمين عند رؤية النصر عمل شيئين: أولاً: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [النصر:٣] يعني: سبح بحمد ربك الذي نصرك والذي أيدك بقوته، والذي مكّن لك في الأرض.

ثانياً: {وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:٣] يعني: تأتي بالاستغفار بعد النصر والتمكين، لاحتمال أن يكون قد دخل في روعك أنك قد انتصرت بقدرتك وبقوتك وبتخطيطك وبتدبيرك، تقول: أنا فعلت كذا، أنا خططت، وأنا دبّرت!! فاستغفر من هذا الأمر؛ لأن الله عز وجل هو الذي فعل، وسوف نفهم بعد هذا كيف دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة وهو في حالة شديدة من التواضع؛ لئلا يُفهم أنه قد فعل ذلك بقدرته البشرية، لكن رب العالمين هو الذي أراد التمكين والنصر والعزة للمسلمين، فلا بد من التواضع الكامل له سبحانه وتعالى.

إذاً: يأتي النصر من حيث نكره؛ لكي لا يدّعي مدع أنه انتصر بقوته، ولكن يُنسب الفضل والنصر لله عز وجل {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:١٧].