للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مقدمة بين يدي فتح مكة]

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد.

فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين.

مع الدرس العاشر من دروس السيرة النبوية: العهد المدني فترة الفتح والتمكين.

في الدرس السابق تحدثنا عن خيانة ونقض بني بكر وقريش للعهد الذي بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتل عدد من رجال خزاعة المحالفة للدولة الإسلامية في ذلك الوقت، ومن ثم أخذ صلى الله عليه وسلم القرار بفتح مكة، وتجهيز أكبر عملية عسكرية في تاريخ المسلمين حتى تلك اللحظة.

والواقع أن قريشاً بعد أن قامت بهذه الجريمة وساعدت بني بكر على قتل الرجال من خزاعة في داخل الحرم جلست قريش مع نفسها تتشاور في هذه القضية، فهي قضية خطيرة جداً: قضية نقض الصلح مع المسلمين، فزعماء قريش عقدوا مجلساً استشارياً كبيراً واجتمع في هذا المجلس أبو سفيان مع قادة مكة، اجتمع مع عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وغيرهم من رجال مكة وزعمائها، وبدءوا يفكرون فيما سيفعلونه نتيجة هذا الأمر الذي حدث وهو نقض المعاهدة، وقد كان هناك تصور عند قريش وخاصة عند أبي سفيان عن المسلمين وصل في تلك اللحظة إلى درجة الانبهار، فصلح الحديبية نفسه كانت الغلبة فيه للمسلمين، والقوة والبأس في صالح المسلمين، والتفريط والتنازل في صف قريش، وتحدثنا عن ذلك بالتفصيل، وقريش ما كانت لتسلّم بذلك الأمر لولا أنها رأت قوة المسلمين، وكان هذا منذ سنتين عندما كان عدد المسلمين (١٤٠٠) فقط في بيعة الرضوان أو في صلح الحديبية، ثم سافر أبو سفيان بعد الصلح إلى غزة للتجارة، وهناك التقى مع هرقل في اللقاء الذي تحدثنا عنه قبل ذلك ودارت بينهما المحاورة العجيبة، وخرج أبو سفيان من هذه المحاورة بتصور هائل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه ضرب يداً بيد وقال: (لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة؛ إنه ليخافه ملك بني الأصفر -يعني: هرقل - فما زلت موقناً أنه سيظهر) الشاهد أن أبا سفيان كان يرى أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم سيظهر في يوم من الأيام، ثم إن أبا سفيان ومن معه من أهل قريش شاهدوا الانتصارات الإسلامية المتتالية هنا وهناك، وبالذات في خيبر ثم في مؤتة، وكانت هذه الانتصارات كبيرة جداً وضخمة جداً، ثم أسلمت الدول والقبائل المحيطة بمكة المكرمة، أسلمت اليمن، وأسلمت البحرين، وأسلمت عمان وغير ذلك من القبائل، وكل هذا ترك تصوراً بالرهبة والهلع عند قريش من مواجهة المسلمين، أضف إلى ذلك أن قريشاً بدأت تبحث في الفوائد المتحققة من مساعدتها لبني بكر في الخيانة التي تمت بقتل مجموعة من رجال خزاعة، فلم تجد أي نوع من الفائدة تحققت؛ لأن هذه معركة داخلية بين بني بكر وبين خزاعة، فإعانة قريش لبني بكر على حرب خزاعة يعتبر تهوراً ملحوظاً، بالإضافة إلى هذه الأمور خلفية عمرة القضاء، فقبل أقل من سنة واحدة رضي أهل مكة بمنتهى الضعف أن يدخل إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم مكة، وهو الذي طردوه وعذّبوه وأساءوا إلى سمعته، وحاربوه بكل طاقتهم، وافقوا أن يدخل إلى مكة ومعه (٢٠٠٠) من أتباعه لأداء العمرة، وأخلوا مكة له، وهذا لا شك ترك انطباعاً وتصوراً نفسياً قاسياً عند أهل قريش، ولا ننسى مظاهر القوة التي حرص صلى الله عليه وسلم أن يظهرها في هذه العمرة، ولا ننسى انبهار قريش بقوة المسلمين وتعليقات قريش عندما رأوا جيش المسلمين وقوة المسلمين، وعمرة القضاء كانت تمهيداً نفسياً إيجابياً للمسلمين، وكانت تمهيداً نفسياً سلبياً للمشركين، وهذا كله من تدبير رب العالمين سبحانه وتعالى.

إذاً: قريش في اجتماعهم أدركوا أن احتمال الحرب وارد، واحتمال غزو مكة مع صعوبة تصور هذا الأمر على الذهن أمر محتمل، وبناء على هذا الاجتماع أخذت قريش قراراً صعباً، بل من أصعب القرارات في تاريخ قريش، وهو الذهاب إلى المدينة المنورة لاستسماح الرسول عليه الصلاة والسلام أن يتغاضى عن هذا الخطأ، وأن يطيل الهدنة، وهذاً تنازل كبير جداً، وطعن كبير جداً في كرامة قريش، وخاصة أن الذي اختاروه للذهاب هو أبو سفيان شخصياً، أي: زعيم مكة وسيد مكة، ليس مجرد سفير ترسله مكة ولكن زعيم مكة بكاملها وزعيم بني أمية، وله تاريخ طويل مع المسلمين، وله حروب متتالية مع المسلمين، وهاهو أبو سفيان يتنازل عن كبريائه وعن كرامته ويذهب إلى المدينة المنورة؛ ليطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطيل الهدنة، وهذا شيء كبير جداً، ولعل هذه هي ولعل