للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أذان بلال يوم الفتح على سطح الكعبة]

الخطوة الثانية كانت هامة جداً، وتضيف معنى مهماً جداً عند قريش في ذلك الوقت؛ ليفقهوا الإسلام على حقيقته، وهي: أن الله عز وجل يعز من انتمى إلى هذا الدين، بصرف النظر عن جنسه وعن لونه وعن قبيلته وعن أي شيء، فمن انتمى لهذا الإسلام فهو عزيز ومن لم ينتم إليه فهو ذليل.

رأى المشركون من أهل قريش بعيونهم في ذلك اليوم عندما نادى صلى الله عليه وسلم على بلال رضي الله عنه وأرضاه، وأمره أن يصعد فوق الكعبة ليؤذن الأذان للصلاة، وهذه هي المرة الثانية التي يفعل فيها الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الفعل، أمر بلالاً رضي الله عنه أن يؤذن في الكعبة في عمرة القضاء، والآن يأمر بلالاً أن يقوم بنفس الأمر، ويصعد بلال رضي الله عنه وأرضاه فوق أشرف بقعة في الأرض، فوق الكعبة البيت الحرام؛ ليرفع الأذان لله عز وجل، الله أكبر، الله أكبر إلى آخر الأذان.

وبلال رضي الله عنه وأرضاه عندما كان يعذب في مكة قبل الهجرة كان يقول: أحد، أحد، في ذلك الوقت كان يهمس بها همسات لا يسمعها إلا من يعذبه، أما الآن فهو يصدح بالتكبير في كل أرجاء مكة المكرمة، والجميع مسلمهم ومشركهم يستمع إليه رضي الله عنه وأرضاه.

وهذا الأمر كما ذكرنا كان له أشد الأثر على المشركين، ودليل ذلك ما حدث على سبيل المثال من أبي سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام، فهؤلاء الثلاثة كانوا قاعدين في فناء الكعبة يستمعون إلى بلال وهو يؤذن، فـ أبو سفيان كان قد أعلن إسلامه قبل ذلك بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن عتاب بن أسيد كان أحد الشباب في قريش، فقد كان عمره حوالي (٢٠) سنة ما زال مشركاً، والحارث بن هشام أيضاً كان ما زال مشركاً، والحارث بن هشام هذا هو أخو أبي جهل، فهو أحد كبار الزعماء في مكة المكرمة، وأحد زعماء بني مخزوم، فقال عتاب معلقاً على أذان بلال رضي الله عنه وأرضاه فوق الكعبة: أكرم الله أسيداً -أي: والده أسيد - ألا يكون سمع هذا فسمع منه ما يغيظه، ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناً، فقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته، فقال أبو سفيان: لا أقول شيئاً، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى.

يعني: أدرك أن الرسول صلى الله عليه وسلم نبي، وسوف يصل إليه الأمر عن طريق الوحي.

فجاءهم صلى الله عليه وسلم بعد هذه الكلمات وقال: (قد علمت الذي قلتم، ثم قال: أما أنت يا فلان فقد قلت كذا وكذا، وأما أنت يا فلان فقد قلت كذا وكذا، فقال أبو سفيان: أما أنا يا رسول الله فما قلت شيئاً، فضحك صلى الله عليه وسلم، وقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله! ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول: أخبرك).

كذلك بنو سعيد بن العاص لما رأوا بلالاً يؤذن على الكعبة قالوا: لقد أكرم الله سعيداً إذ قبضه قبل أن يرى هذا الأسود على ظهر الكعبة.

وقال رجل من قريش للحارث بن هشام: ألا ترى إلى هذا العبد أين صعد؟ فرد عليه الحارث بن هشام: دعه فإن يكن الله يكرهه فسيغيره.

أعتقد أن هذا الكلام قاله بعد أن أسلم رضي الله عنه، ولكن كان هذا في بداية إسلامه.

وصار بعض قريش يستهزئ ويقلد صوت بلال غيظاً، فقلده أحد الشباب واسمه أبو محذورة الجمحي، وأبو محذورة كان عمره (١٦) سنة، وكان صوته جميلاً جداً، كان من أحسن قريش صوتاً، فلما رفع صوته بالأذان مستهزئاً سمعه الرسول صلى الله عليه وسلم، فاكتشف طاقة موجودة عند هذا الشاب، فناداه، فمثل هذا الشاب الصغير بين يديه صلى الله عليه وسلم وهو يظن تمام الظن أنه مقتول؛ لأنه كان يستهزئ بالأذان، فمسح صلى الله عليه وسلم صدر وناصية هذا الشاب بيديه الشريفة، فقال أبو محذورة: فامتلأ قلبي إيماناً ويقيناً، فعلمت أنه رسول الله.

فالرسول عليه الصلاة والسلام بعد أن آمن هذا الشاب علمه الأذان، وأصبح هو الذي يؤذن لأهل مكة بعد رحيله صلى الله عليه وسلم، وظل الأذان في أبي محذورة وعقب أبي محذورة بعد موته إلى فترة طويلة من الزمان.

والرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الأذان وضح لقريش أن الله عز وجل يعز من يشاء ويذل من يشاء، وأن العزة الحقيقية لا تكون إلا بالإسلام، هكذا فهم القرشيون في هذا الموقف العظيم.

إذاً: الفتح تم كما رأينا بحرب عسكرية وحرب سياسية وحرب معنوية، والرسول صلى الله عليه وسلم أتقن كل هذه الحروب بمنتهى الدقة، الحرب عسكرية أعد إعداداً قوياً جداً للجيش، ووضع خطة محكمة فقد أخفى سيره إلى مكة قدر المستطاع، حتى وصل إلى قريش دو