للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اعتماده صلى الله عليه وسلم على الموثوق بهم من الجنود]

النقطة الثانية: الاعتماد على الموثوق فيهم من الجنود، القائد كفرد لا يستطيع أن يفعل شيئاً بلا جنود، حتى لو ثبت لابد أن يكون في جنود؛ فالزعيم لا يأتي بالنصر إلا إذا كانت معه أمة، لكن يتفاوت الناس في إمكانياتهم، يتفاوت الناس في أخلاقهم، في تربيتهم، في تاريخهم، كذلك يتفاوت الناس في درجة الاعتماد عليهم، فهناك من يعتمد عليه في أمور، وهناك من يعتمد عليه في أمور أخرى، وهناك من لا يعتمد عليه أصلاً.

فالقائد المحنك والرئيس الذكي هو الذي يدرك بوضوح إمكانيات من حوله، يعرف الأعمال البسيطة السهلة التي يستطيع الجميع القيام بها، ويعرف الأعمال الصعبة التي لا يقوم بها إلا بعض الرجال، كما يعرف الأعمال شديدة الصعوبة التي لا يفلح في أدائها إلا القليل من الرجال، فكلما ازدادت حكمة القائد أدرك المستوى الدقيق لكل من حوله، وبالتالي لا يكلف أحداً من جنوده فوق ما يطيق، حتى ممكن يحقق نسبة نجاح كبيرة.

فتعالوا لننظر كيف طبق الرسول عليه الصلاة والسلام هذا؟ لقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام أفضل من يميز الرجال، وأفضل من يقدر إمكانياتهم، فهو الرسول عليه الصلاة والسلام لم يناد في هذه المعركة على (١٢.

٠٠٠) مقاتل الذين معه؛ لأن فيهم أناساً حديثو عهد بالإسلام، ويصعب عليهم أن يثبتوا في هذه المواقف، بل إنه صلى الله عليه وسلم لم يناد على (١٠٠٠٠) مقاتل الذين فتح بهم مكة، مع أن الذي دخل الإسلام قبل الفتح له درجة عالية جداً في ميزان الإسلام، ومع ذلك لم يناد عليهم كلهم؛ لأنه يعرف أن منهم من آمنوا رهباً من الدولة الإسلامية أو رغباً في ثرواتها بعد الانتصارات المتتالية مثل: قبائل غطفان وسليم وتميم وغيرهم.

فماذا عمل صلى الله عليه وسلم؟ ركز النداء في أولئك الذين يثق بدينهم، ويطمئن لعقيدتهم، ويعلم تماماً أنهم وإن فروا في أول يوم حنين إلا أنهم سيعودون سريعاً إلى حالتهم الأولى من البذل والعطاء والجهاد بمجرد التذكير؛ لأن معدنهم شديد النقاء.

فمن هؤلاء الذين وثق فيهم الرسول عليه الصلاة والسلام؟ إنهم أصحاب الشجرة، أصحاب بيعة الرضوان الذين شهدوا صلح الحديبية، الذين فتحوا خيبر بعد ذلك، الذين قال الله عز وجل في حقهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:١٨].

فهؤلاء بايعوا قبل ذلك على عدم الفرار.

ولا شك أنهم لو تذكروا هذه البيعة -بيعة الرضوان- لعادوا فوراً إلى القتال؛ لأنهم يقيناً لم يبايعوا هذه البيعة نفاقاً ولأنه سبحانه وتعالى ذكر في كتابه أنه علم ما في قلوبهم، وهؤلاء نزلت عليهم السكينة قبل ذلك وهم على أبواب مكة في سنة (٦) هجرية، وكما تعلمون لم يكن معهم إلا سلاح المسافر، ونزول السكينة عليهم في هذا اللقاء في حنين سيحدث إن شاء الله بشرط أن يعودوا.

وهؤلاء وإن كانوا (١٤٠٠) فقط، إلا أن الواحد منهم بمائة والواحد منهم بألف والواحد منهم بأكثر من ألف، فهؤلاء لو ثبتوا فكل الناس بعد ذلك ستثبت لثباتهم، من أجل ذلك ركز الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم.

أمر صلى الله عليه وسلم العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه وكان من الثابتين إلى جواره، لم يفر العباس ولا لحظة واحدة، أمره أن ينادي على هؤلاء المبايعين على عدم الفرار، فرفع العباس صوته ونادى بكل ما فيه من قوة: يا أصحاب الشجرة! يا أصحاب السمرة، يا أصحاب الشجرة هكذا.

ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام خص النداء أكثر، فلم يعد ينادي على كل أصحاب الشجرة، فأمر العباس أن ينادي على الأنصار، فخص الأنصار من أصحاب الشجرة، فرفع العباس صوته ونادى: يا أنصار الله، يا أنصار رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم إنه خص أكثر وأكثر فنادى على الخزرج: يا بني الخزرج، يا بني الخزرج.

ثم إنه خص أكثر وأكثر وأكثر، فنادى على بني حارثة من الخزرج وهم من خير دور الأنصار، كما قال في الحديث عن أبي أسيد الساعدي في البخاري ومسلم.

فماذا كان رد فعل أصحاب الشجرة والأنصار والخزرج وبني حارثة؟ نترك العباس رضي الله عنه يصور لنا رد فعل هؤلاء رضي الله عنهم أجمعين.

يقول العباس: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها.

يعني: عادوا مسرعين كالبقر التي تدافع عن أولاها الصغار، وقال الأنصار في لحظة واحدة وبصورة جماعية وبحماس: يا لبيك، يا لبيك، لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك، فجاءوا من كل مكان في أرض الموقعة، مع كل الأزمة التي يعيشها المسلمون إلا أنهم أتوا من كل مكان، حتى إنهم كانوا لا يرون الرسول عليه الصلاة والسلام من شدة تزاحم الناس، وكان الرجل يجد صعوبة في العودة؛ لأن الدابة التي يركب عليها في عكس الاتجاه، لكن كان يترك الدابة وينزل ويترجل على قدميه حتى يلح