للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[البكاءون]

إن بعض هؤلاء الفقراء المعدمين بلغوا من الصدق في النية والشوق إلى الجهاد بالنفس والمال أن بكوا تأثراً أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجد راحلة يحملهم عليها إلى تبوك، تخيل شخصاً يحرم من الجهاد فيبكي؛ لأنه لا يستطيع أن يجاهد في سبيل الله لا بمال ولا بنفس، لم يقولوا: الحمد لله الذي عافنا من هذا المجهود، ولكن حزنوا حزناً شديداً وصل إلى حد البكاء لحرمانهم من الجهاد، هؤلاء عرفوا في السيرة بالبكائين، وكانوا سبعة، وفيهم نزل قول الله عز وجل: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [التوبة:٩٢] انظر التصوير: {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:٩٢] حزن حقيقي صادق، تدبر بإمعان في مقدار الإخلاص والتجرد والتضحية التي كانت في قلوبهم إلى الدرجة التي تصل إلى تخليد ذكراهم في كتاب رب العالمين بقرآن يقرأ ويتعبد به إلى يوم القيامة.

كل هذا وهم من الفقراء الذين لا يملكون شيئاً مطلقاً، ولا حتى مكيال تمر، بل إن بعضهم بلغ به الشوق إلى الجهاد في سبيل الله، وإلى خدمة الإسلام ونصرة الدين درجة لا نتصورها أصلاً.

هذا هو علبة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه أحد البكائين السبعة رضي الله عنهم وأرضاهم، عاد يوماً إلى بيته، وذلك بعدما رده صلى الله عليه وسلم، وصلى في هذه الليلة ما شاء الله له عز وجل أن يصلي، ثم بكى في آخر صلاته ودعائه، وقال: اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق -وانتبه فهذه أعجب صدقة في التاريخ- على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو جسد أو عرض.

هذا يريد أن ينفع الجيش المجاهد والأمة الإسلامية بأي شيء، لكن ليس معه أي شيء، ففكر في شيء عجيب يتصدق به ما تصدق به أحد قبله، وما أحسب أن أحداً فعل ذلك بعده، إنه يتصدق من حسناته، هذه المظالم التي ارتكبت في حقه يوماً من الأيام تتحول إلى حسنات في ميزانه يوم القيامة، وهو يريد مساعدة المسلمين بأي شيء، وليس معه، فليساعدهم بالعفو عن ظلمهم إياه ورد حسناتهم إليهم، وما أحسب أن أحداً في العالم بلغ هذه الدرجة من السمو في حب العمل لله، وحب الخدمة للناس والمجتمع والأمة.

يا ترى هل كان هناك مردود لأمنية علبة بن زيد رضي الله عنه؟ هذا الرجل ذهب إلى صلاة الصبح مع المسلمين، والتفت الرسول عليه الصلاة والسلام بعد الصلاة إلى الناس وسأل: (أين المتصدق هذه الليلة؟ لم يقم أحد، فقال: أين المتصدق مرة ثانية فليقم، فقام إليه علبة وأسر إليه في أذنه وأخبره بما كان من ليلته بالأمس، فقال صلى الله عليه وسلم: أبشر؛ فوالذي نفسي بيده كتبت في الزكاة المتقبلة).

استحق علبة بن زيد رضي الله عنه برغم فقره الشديد أن يكون من كبار المتصدقين الذين تقبل الله عز وجل منهم صدقاتهم، وأصبح علبة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه من عمالقة الإيمان الذين يقودون الأمة إلى كل مجد وعز وشرف رضي الله عنه.

والرسول عليه الصلاة والسلام من شدة إعجابه بهذه الطائفة العملاقة من المؤمنين والتي لا تملك شيئاً في يدها، هذه الطائفة الباكية ظلت في فكره صلى الله عليه وسلم منذ ذهب إلى تبوك وحتى عاد إلى المدينة المنورة وقال لأصحابه عن أولئك الصادقين الذين ما استطاعوا أن يخرجوا إلى الجهاد في سبيل الله وهم يتمنونه بصدق، قال: (إن أقواماً بالمدينة خلفنا ما سلكنا شعباً ولا وادياً إلا وهم معنا فيه حبسهم العذر).

هذا الكلام يعطي إشراقة أمل لكل من حيل بينه وبين الجهاد في سبيل الله لأي سبب، لكن يتمنى بصدق، فيصل فعلاً إلى درجة المجاهدين في سبيل الله، ويصبح الجيش المجاهد كلما خطا خطوة في سبيل الله يكتب له الأجر وهو في مدينته مثلما يكون للجيش المجاهد في سبيل الله، بل قد يصل إلى درجة الشهداء في سبيل الله! روى مسلم والنسائي وابن ماجه عن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه).

هذا هو الإسلام، الإسلام ليس ديناً للأغنياء فقط، كل إنسان يمكن أن يساهم حتى المعدم الفقير الذي لا يجد شيئاً، ويصبح كأعظم الناس نفقة في سبيل الله إذا أخلص نيته لله عز وجل: أنه إن كان معه مال فسينفقه في سبيل الله، رحمة من رب العالمين سبحانه وتعالى.

ختاماً: طبقة عمالقة الإيمان هذه لم تكن من الرجال فقط، بل أتت بعض النساء من عمالقة الإيمان بحليهن وبكل ما يملكن لتجهيز الجيش المسلم مع أنهن لسن مكلفات بالجهاد في سبيل الله، ولكن لقوة إيمانهن فهن يعتبرن أنفسهن مسئولات عن قضايا الأمة، ولذلك كن فعلا