للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[إسلام وفد ثقيف]

بعد عدة أيام استمع وفد ثقيف إلى الإسلام، ورأى أحوال المسلمين، وطلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يسلموا، لكن كان عندهم بعض الشروط يريدونها من الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذه الشروط توضح أنهم لم يريدوا الإسلام حباً فيه، ولكن جاءوا رهباً منه ورغباً في المصالح من ورائه.

قال زعيمهم عبد ياليل بن مسعود: أفريت الزنا، فإنا قوم نغترب ولا بد لنا منه؟ يعني: هم يريدون أن يستحلوا الزنا، مع علمهم أن من تعاليم الإسلام تحريم الزنا، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام هو عليكم حرام؛ فإن الله عز وجل يقول: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:٣٢].

يعني: هذا حد من حدود الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أبداً أن يتنازل عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أن إسلام ثقيف إضافة ضخمة جداً للدولة الإسلامية، لكن لا يمكن أبداً أن يفرط الرسول صلى الله عليه وسلم في أي أمر من أوامر الله سبحانه وتعالى.

فقال عبد ياليل: أفريت الربا؛ فإنه أموالنا كلها؟ قال صلى الله عليه وسلم: لكم رءوس أموالكم، فإن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:٢٧٨].

أيضاً رفض تحليل الربا.

فقال زعيمهم: أفريت الخمر؛ فإنه عصير أرضنا لا بد لنا منه؟ يعني: يريدون أن يحلوا أي شيء من المحرمات التي في الإسلام، فهذا يدل على أنهم لم يسلموا رغباً في الإسلام، لكن ظروف الجزيرة العربية في ذلك الوقت دفعتهم إلى هذا الإسلام، قال صلى الله عليه وسلم: إن الله قد حرمها.

وقرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:٩٠].

هذه أمور ثلاثة حاولوا أن يحذفوها من الإسلام، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان واضحاً تمام الوضوح، وكان حازماً تمام الحزم، لا مساومة في الدين، ولا التقاء في منتصف الطريق إذا كان الأمر يخص العقيدة والحلال والحرام، ولم يسع إلى تأليف قلوبهم عن طريق حذف أو تبديل في الشريعة.

قام وفد ثقيف للتشاور، سنعمل فقال بعضهم لبعض: ويحكم إنا نخاف -إن خالفناه- يوماً كيوم مكة.

يعني: لو رفضوا أن يأخذوا الإسلام كاملاً دون حذف ولا تبديل فقد يغزوهم في يوم من الأيام، ويحدث لهم ما حدث لأهل مكة، فأتوا الرسول عليه الصلاة والسلام وقالوا: نعم لك ما سألت، ثم قالوا: أرأيت الربة؟ لا زالت هناك محاولات أخرى لحذف بعض الأمور من الدين الإسلامي، قالوا: أريت الربة ماذا نصنع فيها؟ الربة هي اللات وهي الصنم المعبود في الطائف، وكانت من أعظم أصنام العرب، والجميع كان يقسم بها ويهدي إليها ويذبح عندها ويعتقد فيها، فأجاب الرسول عليه الصلاة والسلام إجابة حاسمة لا مجاملة فيها، قال: اهدموها.

ففزع أهل ثقيف وقالوا: هيهات لو تعلم الربة أنك تريد هدمها لقتلت أهلنا.

فكان عمر بن الخطاب حاضراً هذه المفاوضات فقال: ويحك يا عبد ياليل إن الربة حجر لا يدري من عبده ممن لا يعبده، فرد عليه عبد ياليل وقال: إنا لم نأتك يا عمر.

يعني: ليس هذا من شأنك.

لكن لم يجد أهل ثقيف بداً من هدم اللات، وأصر الرسول عليه الصلاة والسلام على هدمها، لكنهم بدءوا يسامون على توقيت هدم اللات، فطلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يدع اللات ثلاث سنين قبل أن يهدمها، فأبى صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سنتين، فأبى، فقالوا: سنة، فأبى، فقالوا: شهراً واحداً، فأبى صلى الله عليه وسلم، فأسقط في أيدهم، وقالوا في يأس: تولى أنت هدمها، أما نحن لا نهدمها أبداً، فقال صلى الله عليه وسلم: فسأبعث إليكم من يكفيكم هدمها.

وقبل أن يقوموا طلبوا طلباً أخير وهو أن يعفيهم صلى الله عليه وسلم من الصلاة يعني: مفهوم الدين عندهم غير واضح، وهذا نتيجة أن الأصنام لا تشرع منهجاً ولا تضع قانوناً، فكان عليهم أن يضعوا قوانينهم بأنفسهم، وهو الشيء الذي يسمونه الآن: القوانين الوضعية، لذلك جاءت أسئلة ثقيف مضحكة طفولية؛ لغياب مفهوم الدين الصحيح من أذهانهم، فهم كانوا يفهمون أن الدين مجرد قرابين وذبح ومجرد عبادة للات دون التدخل في حياتهم، لكن الدين الصحيح حقيقة كما أراده الله عز وجل، هو ما جاء في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:١٦٢]، فكل دقيقة وصغيرة وكبيرة في الحياة يدخل فيها الدين وله فيها رأي، وهو ما لم تفقهه ثقيف في هذه اللحظة.

لكن الرسول عليه الصلاة والسلام رفض الإعفاء من الصلاة، وقال لهم: (لا خير في دين لا صلاة فيه)، وبهذا أقر وفد ثقيف بكل ما أمر به صلى الله عليه وسلم، وقرروا العودة إلى الطائف على أن