للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم]

كان أمام المسلمين أمران في غاية الأهمية، لا بد من حسمهما بسرعة، وهما: من يلي أمور المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فهذه دولة كبرى الآن لا بد لها من زعامة، وبرغم فداحة المصاب إلا أن واقعية الصحابة حتمت عليهم أن يختاروا من بينهم من يحكمهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمع الصحابة في سقيفة بني ساعدة وبعد مشاورات ومداولات اختاروا الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ثاني اثنين، والصاحب الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلم الصحابة وأتقى الصحابة وأفقه الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.

وقد فصلنا كثيراً هذا الأمر عندما تكلمنا عن الصديق رضي الله عنه وأرضاه في مجموعة المحاضرات الخاصة به.

أما الأمر الثاني فهو قضية تغسيل وتكفين ودفن الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي قضية حساسة جداً ومحيرة، ومن القضايا الأولى التي سيأخذ فيها الصحابة رضي الله عنهم قراراً في غياب الرسول صلى الله عليه وسلم.

هناك من الأحكام الفقهية ما قد يكون خاصاً به صلى الله عليه وسلم، وهناك ما قد يكون عاماً على عموم المسلمين، أما الغسل لجسده الشريف فقد احتار الصحابة في أمره، قالوا: والله ما ندري أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثيابه كما نجرد موتانا، أم نغسله وعليه ثيابه؟ فلما اختلفوا ألقى الله عز وجل عليهم النوم، حتى ما منهم رجل إلا ورأسه على صدره، ثم كلمهم متكلم من ناحية البيت لا يرون من هو: أن اغسلوا النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه، فقاموا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء من فوق القميص، ويدلكونه بالقميص دون أيديهم.

وهذا حديث صحيح رواه أبو داود وأحمد وابن حبان والحاكم وابن ماجة والبيهقي وغيرهم.

وقام بعملية الغسل مجموعة من الصحابة معظمهم من آل البيت، كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يغسله، وأسامة بن زيد وشقران مولى الرسول عليه الصلاة والسلام يصبان الماء، والعباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم وولداه قثم والفضل يقلبونه، وأوس بن خولي الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه يسنده على صدره، ثم بعد ذلك كفن صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب يمانية من كتان يعني من قطن، ليس فيها قميص ولا عمامة.

كان هذا الغسل والتكفين في صباح يوم الثلاثاء الثالث عشر من ربيع الأول، وكان الصحابة في هذا اليوم مشغولين بقضية الاستخلاف.

وبعد الغسل والتكفين وضعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على فراشه، ثم بدءوا في الصلاة عليه، ودخل الناس أرسالاً، يعني: كانوا يدخلون عشرة عشرة، صلى عليه أولاً أهل البيت، أهل بيته صلى الله عليه وسلم وعشيرته، ثم المهاجرون، ثم الأنصار، ثم بقية الرجال في المدينة، ثم دخلت النساء فصلت عليه، ثم بعد ذلك الصبيان، حتى صلى عليه جميع من بالمدينة من المؤمنين.

ثم كانت بعد ذلك قضية الدفن، واختلف الصحابة في مكان الدفن وفي كيفيته، أما مكان الدفن فقد قال بعضهم: يدفن في مسجده، وقال آخرون: يدفن مع أصحابه في البقيع فقال الصديق رضي الله عنه وأرضاه إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض).

فقرروا أن يدفنوه صلى الله عليه وسلم في المكان الذي مات فيه في حجرة عائشة رضي الله عنها وأرضاها.

أما في كيفية الدفن فقد اختلفوا أيضاً في الدفن هل يشق له في قبره أم يلحد؟ على أن يلحدوا له، فجاء أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه ورفع فراش الرسول عليه الصلاة والسلام وحفر تحت الفراش، وأصلح اللحد الذي سيدفن فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي ليلة الأربعاء بدأ الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم في إنزال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره.

ونزل في قبره علي بن أبي طالب والفضل بن العباس وقثم بن عباس، وشقران مولى الرسول صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم أجمعين، وقيل: نزل معهم عبد الله بن عوف وقيل: أوس بن خولي.

وبعد أن وضع صلى الله عليه وسلم في قبره أهالوا عليه التراب، لتغلق أهم صفحة من صفحات التاريخ البشرية، لم يصدق الصحابة أنفسهم من كونهم يعيشون في الحياة بدون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كونهم يمشون على الأرض وهو يرقد تحتها صلى الله عليه وسلم.

يقول أنس بن مالك: (ولما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيدي، وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا).

القلوب وكأنها ليست القلوب، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمدها بنور وهدى وأمان وراحة واطمئنان، أما الآن فقلوبنا ليست هي القلوب التي كانت يوم كان