للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الرجل الطريف]

من المفاهيم المغلوطة الرجل الطريف: فقد يكون الإنسان طريفاً وصاحب نكتة، وقد نتساءل كيف يكون هذا جاداً؟ فنقول: قد يكون إنسان طريفاً ومع ذلك يكون رجلاً جاداً، وسأضرب لكم صورة من صور بعض السلف فمن مشاهير السلف في الطرافة: الأعمش والشعبي، الأعمش كان عنده رجل فسأله وقال: كيف بت البارحة؟ فدخل منزله وأخذ وسادة فوضعها ثم استلقى وقال: بت هكذا.

وذات يوم كان عنده ضيوف فأحضر لهم رغيفين فأكلوها كلها، فدخل المنزل وأحضر حزمة قت -يعني: برسيم- وقدمه لهم وقال: أكلتم طعامي وطعام أولادي وبقي طعام شاتي.

وكان الأعمش واقفاً عند النهر فأتاه جندي متكبر مغرور يريد منه أن يعبر به النهر فصعد على ظهره وقال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، فما كان من الأعمش إلا أن سار به فلما توسط النهر رماه وقال: رب أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين.

هذه صور الآن من ذاك الرجل الطريف الأعمش رحمه الله فكيف كان جاداً؟ كان يقال عنه رحمه الله: ما خلف الأعمش أعبد منه، وكان يعرض القرآن فيمسكون عليه المصاحف فلا يخطئ في حرف واحد، إضافة إلى أنه إمام من الأئمة، فتلك الطرافة التي كانت لديه لم تكن تشغله عن أن يكون رجلاً جاداً عاملاً عالماً.

وكذلك الشعبي أيضاً هو الآخر جاءه رجل مغفل وهو واقف هو وامرأته فقال: أيكم الشعبي؟ فقال: هذه، وسأله رجل: ما اسم زوجة الشيطان؟ قال: إني لم أحضر العرس.

المهم أن الشعبي هو الآخر كان طريفاً، لكنه كان يقول عنه مكحول: ما رأيت أحداً أعلم من الشعبي.

ويقول هو عن نفسه: ما مات ذو قرابة لي وعليه دين إلا وقضيت عنه، ولا ضربت مملوكاً لي قط، ولا حللت حبوة إلى شيء مما ينظر إليه الناس.

وهو إمام من الأئمة في الحفظ، كان يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء قط، وما حدثني رجل بحديث فاحتجت أن يعيده، وأقل ما أحفظ الشعر، ولو شئت أنشدكم شهراً دون أن أعيد بيتاً واحداً.

إذاً قد يكون الرجل رجلاً طريفاً وصاحب دعابة لكنه أيضاً رجل عملي، ورجل جاد، فعلاً يعمل وينتج ويكون مثل أولئك، لكن يتخفف من مثل هذه الطرافة، أو تكون هذه الطرافة والدعابة في غير مواطن الجد.