للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التدقيق في الورع للخاصة]

القاعدة السابعة: ذكرها الحافظ ابن رجب وهي أن التدقيق في مسائل الورع إنما هو للخاصة، وليس لآحاد الناس، قال: وهاهنا أمر ينبغي التفطن له، وهو أن التدقيق في التوقف عن الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها، وتشابهت أعماله في التقوى والورع.

فأما من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة، ثم يريد أن يتورع عن شيء من دقائق الشبه، فإنه لا يحتمل له ذلك، بل ينكر عليه.

وهذا حال بعض المتكلفين المرائين يسلك هذا المسلك.

كما قال ابن عمر لمن سأله عن دم البعوض من أهل العراق: يسألونني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (هما ريحانتاي في الدنيا).

ونقل بعض النقول عن بعض السلف، هي أمثله على هذا النوع، من ذلك والكلام لا يزال لـ ابن رجب: وسأل رجل بشر بن الحارث عن رجل له زوجة وأمه تأمره بطلاقها، فقال: إن كان بر أمه في كل شيء، ولم يبق من برها إلا طلاق زوجته فليفعل، وإن كان يبرها بطلاق زوجته ثم يقوم بعد ذلك إلى أمه فيضربها فلا يفعل.

وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن رجل يشتري بقلاً ويشترط الخوصة، يعني التي تربط بها حزمة البقل -والمعنى أنه عندما يشتري البقل وهو مربوط بخوصة يشترط على البائع من تدقيقه في الورع أن الخوصة له لأنه في الأصل اشترى البقل ولم يشتر الخوصة- قال أحمد: أيش هذه المسائل، قيل له: إنه إبراهيم بن أبي نعيم، قال أحمد: إن كان إبراهيم بن أبي نعيم فنعم، هذا يشبه ذاك.

يعني أن إبراهيم مشهور بالورع والتقوى والصلاح فيحتمل منه هذا الأمر.

أما الذين لا يتورعون عن الحرام فينكر عليه الإمام أحمد، والإمام أحمد من هو في الورع والتقوى والصلاح، فيأتينا نقل الآن عنه أنه يتورع عن أشياء ثم ينكر على غيره التورع عنها.

قال: وإنما أنكر أحمد هذه المسائل ممن لا يشبه حاله، وأما أهل التدقيق في الورع فيشبه حالهم هذا، وقد كان الإمام أحمد يستعمل في نفسه هذا الورع، فإنه أمر من يشتري له سمناً فجاء به على ورقة فأمر برد الورقة إلى البائع.

وكان أحمد لا يستمد من محابر أصحابه، وإنما يخرج معه محبرة يستمد منها.

واستأذنه رجل أن يكتب من محبرته فقال له: اكتب فهذا ورع مظلم، واستأذنه آخر في ذلك فتبسم، وقال: لم يبلغ ورعي ولا ورعك هذا.

ولاحظ الآن الفرق فإنه أنكر على الذي يشترط الخوصة، بينما كان هو يعيد الورقة التي يشتري عليها السمن، وهو ينكر على الذي استأذن في استعمال المحبرة إنكاراً غليظاً ويخبره أن هذا ورع مظلم، في حين استأذنه آخر فتبسم وقال: لم يبلغ ورعي ولا ورعك هذا.

يقول ابن رجب: وهذا قاله على وجه التواضع، وإلا فهو كان في نفسه يستعمل هذا الورع، وكان ينكره على من لم يصل إلى هذا المقام، بل يتسامح في المكروهات الظاهرة ويقدم على الشبهات من غير توقف.

وهذا الأمر مهم أن نعيه ونحن نورد بعض الروايات مثلاً عن السلف في ورعهم، حتى لا نقع في هذا اللغط، والذي له أحياناً آثار سلبية على نفوسنا، فإننا أحوج ما نكون إلى الورع الواجب، وأحوج ما نكون إلى اجتناب المحرمات الظاهرة الواضحة، وأحوج ما نكون إلى إصلاح قلوبنا، فإذا انشغلنا بهذه الدقائق تركت آثاراً على أنفسنا.

أولاً: تشعر أنفسنا بالزهو وهي لم ترق إلى هذا القدر أصلاً، وتشعر باحتقار الآخرين.

وأيضاً: تنشغل النفس عما هي أولى به من إصلاح القلب، ومن الورع الواجب.