للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الورع في ترك السكوت عن المنكرات والدعوة إلى الله]

الأمر الثالث: الورع في ترك السكوت عن المنكرات وترك القعود عن الدعوة.

ومن العجائب أن ترى من الناس من يقعد ويسكت ويتخاذل ويرى أن هذا ورع، أي أنه يتورع عن الحديث للناس، والتصدر لهم، ويتورع عن نشر علم آتاه الله إياه، ويتورع عن بيان علم قد علمه الله عز وجل إياه، لكنه لا يتورع أن يكون ممن قال الله سبحانه وتعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة:١٥٩ - ١٦٠].

فمن يتورع عن أن تصيبه هذه الآية، ومن يتورع أن يكون من أهل هذه الآية! إنه قد يتورع أن يقول حقاً رآه أو علمه حتى لا يكون ممن يقول ما لا يفعل، أو حتى لا يعرفه الناس، لكنه ينسى أنه قد يكون ممن يلعنهم الله ويعلنهم اللاعنون، ممن يكتم ما أنزل الله من البينات والهدى، ولا يتورع أن يكون يوم القيامة ممن هو متوعد بأن يلجمه الله بلجام من نار يوم القيامة: (من سئل عن علمٍ فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار).

إذاً: فكما أننا ينبغي أن نتورع في كلامنا ومنطقنا، فلا يتحدث المرء إلا بما يعلم، ولا يقول إلا ما يحسن، ولا يدعو إلا بعلم، وأن نؤكد على الناس ذلك، فكذلك يجب أن نتورع عن كتمان العلم، يجب أن نتورع عن كتمان حق نعلمه، ويجب أن نعلم أن ذلك مجلبة للعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وأن ذلك مجلبة لأن يحق على المرء لعنة الله واللاعنين.

وقد أخذ الله عز وجل الميثاق على {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:١٨٧].

أخذ الله عز وجل الميثاق على أهل العلم أن يبينوا وأن يتحدثوا، وأن ينكروا إذا رأوا منكراً، وأن يأمروا بمعروف إذا رأوه معطلا.

ومن هم أهل العلم؟ إن أهل العلم هم كل من آتاه الله علماً في مسألة من المسائل، فمن علم أمراً من شرع الله عز وجل وتيقنه فهو من أهل العلم في هذا الميدان، ويصدق عليه قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:١٥٩].

وكان مما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه كما في حديث عبادة بن الصامت قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله).

وبقية الحديث: (وعلى أن نقول بالحق حيث كنا، لا تأخذنا في الله لومة لائم).

فلماذا نجتزئ الحديث ونأخذ الشطر الأول منه ونترك بقيته التي تلزمنا المسلم أن يقول بالحق، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن ذلك مما بايع النبي صلى الله عليه وسلم عليه أصحابه.

إذاً: فالقعود عن المشاركة في الدعوة، والقعود عن إنكار المنكرات وعن تعليم ما يحتاجه الناس، وعن نشر العلم، والخير، وعن نشر كلمة الحق التي يحتاجها الناس، عن بيان ما يرى المرء أنه حق؛ القعود عنه هو أعظم إخلال بالورع، وهو مجلبة لاستحقاق لعنة الله سبحانه وتعالى، ولعنة اللاعنين، وهذا من كيد الشيطان لبعض المتدينين والعابدين؛ أن يروا أن من باب الورع والصلاح والتقوى أن يبتعدوا عن هذا الأمر، وينسون أن يتورعوا عن السكوت عن ما حرم الله عز وجل السكوت عنه.