للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[لم يكن أسلافنا بمعزل]

ننتقل بعد ذلك إلى عنصر آخر بعنوان: لم يكن أسلافنا بمعزل: أتصور أن قضية الحديث عن التربية والحاجة إليها والضرورة إليها قضية بدهية وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل ولسنا بحاجة إلى الاستشهاد والاستدلال، لكننا أصبحنا نجد من يشغب علينا كثيراً عندما نطرح مثل هذه القضايا، ويفاجئك بأن هذه قضية فيها نظر، وهذه قضية فيها كذا، وهذه قضية فيها كذا، فنحتاج إلى التأصيل والاستشهاد العلمي للقضايا البدهية التي لا تحتاج إلى استدلال، فنقول مثلاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل عنه: {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:٢]، هذه التزكية هي تربية النبي صلى الله عليه وسلم.

النبي صلى الله عليه وسلم له وظائف: {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:٢]، مناقشة التعليم والكتاب والحكمة وتلاوة القرآن معروفة، لكن التزكية ما معناها وما المقصود بالتزكية؟ المقصود بها التربية.

فإذاً: وظيفة من وظائف الرسول صلى الله عليه وسلم تربية الأمة، وإلا كان يمكن أن ينزل بالقرآن ملك، ولكن أنزل الله عز وجل رسولاً يأكل الطعام ويمشي في الأسواق حتى يربي الناس، ويعيش مع الناس في عواطفهم ومشاعرهم، وأنت عندما ترى تربية النبي صلى الله عليه وسلم العلمية على سبيل المثال، تراه صلى الله عليه وسلم ما كان مجرد إنسان يعطي معلومات علمية مجردة، بل كان صلى الله عليه وسلم يربي عند أصحابه الاستنباط، يربي عند أصحابه منهج التلقي، عند أصحابه المنهج العلمي، منهج السؤال، أدب السؤال.

ما نريد أن نستطرد، لكن أعطيكم أمثلة سريعة على تربيته العلمية صلى الله عليه وسلم، فهو مثلاً كان يربي التفكير عند أصحابه والاستنباط، فيسأل يوماً من الأيام يقول: (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، ومثلها مثل المسلم، فأخبروني ما هي؟)، يقول ابن عمر: فوقع الناس في شجر البوادي.

يعني: كل إنسان يقول: الشجرة الفلانية، فذهب وهلي إلى أنها النخلة، وكنت أصغر القوم فاستحيت.

الآن هنا النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكن أن يقول: مثل المسلم مثل النخلة، لكنه يضرب لهم مثلاً ما هي هذه الشجرة؛ حتى يتربون على التفكير، على الاستنباط، على الاستدلال، وهكذا يربي أصحابه على منهج التلقي، على منهج السؤال، على أدب السؤال.

المهم أن تربية النبي صلى الله عليه وسلم العلمية هذه بحد ذاتها بحاجة إلى حديث مستقل، فالنبي صلى الله عليه وسلم إذاً لم يكن مجرد إنسان وبشر مجرد يعطي معلومات جافة ومجردة، بل كان رسولاً معصوماً، وكان بشراً يعيش مشاعر البشر، ويربي الناس كما قال الله عز وجل: {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:٢].

مجالس العلماء: كانوا يقولون ويوصون طالب العلم: أيها الطالب علماً ائت حماد بن زيد فاكتسب علماً وحلماً ثم قيده بقيد ودع الفتنة من آثار عمرو بن عبيد فهو يقول: اكتسب علماً وحلماً، القضية ليست العلم وحده.

ويقول ابن سيرين رحمه الله: كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم.

ويقول الحسن: إن كان الرجل ليخرج في أدب واحد السنة والسنتين.

وأوصى حبيب الشهيد وهو من الفقهاء ابنه فقال: يا بني! اصحب الفقهاء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم، فإنه أحب إلي من كثير من الحديث.

وروى ابن المبارك عن مخلد بن الحسن أنه قال: نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من حديث.

والآثار عن السلف في ذلك كثيرة، كان أحدهم يقول: صحبت فلاناً لا لأتعلم منه، ولكن لأعرف سمته وهديه ودله.

فما كانت مجالس العلماء مجالس مجردة تعطي معلومات جافة، إنما كانت تعلم وتؤدب وتربي.

ولعل أيضاً مما يدلنا على ذلك الكتب التي صنفها العلماء في أدب العالم والمتعلم، وهي كتب كثيرة، منها مثلاً ما صنفه الخطيب، منها كتاب ابن جماعة تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، وهي كتب كثيرة ترى أن علماء السنة وعلماء الحديث دائماً إما أن يضمنوها باباً من أبواب كتبهم التي تتحدث عن العلم وفضله، أو أن يفردوا لها تصنيفاً مستقلاً وكتاباً مستقلاً في أدب العالم والمتعلم، ويعلمون طالب العلم أدب الطلب، وترى أن هذه الآداب تحمل أبواباً شتى، من العبادة، وحسن الخلق، والتعامل مع الشيخ، وليست حتى مجرد آداب تقتصر على آداب التلقي العلمي المجرد، بل هي آداب سلوكية، آداب في عبادة الإنسان، وهذا جزء من التربية، وعناية السلف بالتربية.

كذلك الكتب التي تعنى بالمدارس، وآداب معلم الأطفال، وما يحتاج إليه معلم الأطفال، وأهل المدارس وآدابها، وهي كتب كثيرة أيضاً يعرفها أهل الشأن في ذلك.

المهم أن السلف لم