للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[من أخاطب؟]

يا فتاة من أخاطب في هذه الرسالة؟ ولمن أتحدث؟ إني أخاطب الفتاة الحصان الرزان، الطاهرة العفيفة، فتاة ولدت من أبوين فاضلين، وعاشت في بيت محافظ تستيقظ وتنام وتغدو وتروح وهي تسمع الدعاء لها بالستر والعافية، ولكنها مع فتن العصر وصوارفه، ومع الغربة الحالكة بدأت تنظر ذات اليمين وذات الشمال، وتلتفت إلى الوراء فترفع سماعة الهاتف لتخاطب شاباً لم تعرفه إلا من كلامه، وتسهر أحياناً على فيلم ينسخ من ذاكرتها كل صور البراءة والعفة لتتراءى أمام ناظريها مظاهر السفور والعلاقة المحرمة، فتعيش في دوامة الصراع، فتسمع تارة هذا الصوت النشاز الذي يدعوها إلى الارتكاس في الحمئة والتخلي عن كل معاني الفضيلة والعفة، وتسمع أحياناً أخرى الصوت الصادق يهزها من داخلها هزاً عنيفاً يقول لها: رويدكِ فهو طريق الغواية وبوابة الهلاك.

وتتصارع هذه الأصوات أمام سمعها، وتتموج هذه الأفكار في خاطرها، ولكن لمن الغلبة والنهاية؟ قد تكون الغلبة للصوت الناصح، والصوت الصادق، وقد تكون الأخرى فتزل بها القدم، وتهوي تحت ثقل داعي الشهوة والهوى، إنها تؤمن بالله واليوم الآخر حق الإيمان، وتعرف الجنة والنار، وتؤمن بالحلال والحرام، لكن الصراع مع الشهوة قد رجح لغير كفتها، ومع ذلك كله فقد رُزقت أباً غافلاً قد شُغل بتجارته وعلاقاته مع أصدقائه وزملائه، وأماً بعيدة كل البعد عنها، لا يعنيها شأنها، ولا تشغلها قضيتها، ولم تعتد أن تتلقى منهم الابتسامة الصادقة، والكلمة الوادة، ولم تر منهم القلب الحنون، ولم تر منهم من يفتح ذراعيه لها، وحينئذ وجدت بغيتها وضالتها في صاحبتها صاحبة السوء التي تلقاها في المدرسة، وربما كانت الضالة في شاب تائه غاو ضال يغويها بمعسول الكلام.

يا فتاة إن كنتِ كذلك فما أجدركِ أن نخاطبكِ، وما أجدركِ أن تقدري موقفي، فأصغي لصوتي وحكّمي عقلكِ، فإن سمعتِ خيراً فحي هلا، وإن كان غير ذلك فأنتِ وما تريدين، أما إن كنتِ من أهل الصلاح والاستقامة فاسمعي ما أقول، وكوني رسول خير وترجمان صدق لمن وراءكِ إنني يا فتاة حين أتحدث عن هذه الظواهر فإني لستُ أخاطب كل فتاة تستمع لحديثي، سواء كانت حاضرة معي هذا المجلس، أو كانت تستمع من خلال جهاز التسجيل إني لا أخاطب كل فتاة على أنها على هذه الحال وهذه الصورة، فإن كانت كذلك فعلاً فإن الخطاب يعنيها بالدرجة الأولى، وإن كانت غير ذلك فلعلها أن تكون رسولة خير، ولعلها أن تساهم معنا في إبلاغ هذا الصوت والذي أصبح وللأسف صوتاً نشازاً، وقد اختفى تحت ركام الأصوات الهائلة التي تدعو الفتاة إلى الغواية، التي تدعو الفتاة إلى الضلال والانحراف، والتي صارت تتاجر بقضية المرأة وحياتها وعفتها، عفواً بل صارت تتاجر بحياء الأمة كلها وعفتها وشباب الأمة، أقول: لقد اختفت تلك الأصوات الناصحة الصادقة، لقد خفت صوتها وصارت حبيسة هذا الركام من المجلات الوافدة والمسلسلات الساقطة والأصوات التي تعلو هنا وهناك، تدعو الفتاة والشباب جميعاً إلى هذا الطريق، وتقول لهم بلسان الحال أو بلسان المقال: هيت لكم.

يا فتاة اعتدت أن تسمعي الكثير من خلال الخطبة والمحاضرة والفصل الدراسي اعتدت أن تسمعي الوعظ والترغيب والترهيب، وهو مسلك مطلوب ومنهج سليم، كيف لا وهو منهج النبي صلى الله عليه وسلم ومنهج القرآن الكريم، لكني هنا سأخاطبكِ بلغة أخرى، بلغة العقل ومنطق الحوار الهادئ لا رغبة عن الوعظ والترغيب والترهيب، ولا تفضيلاً لهذه اللغة، ولكن كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن ينوع أسلوبه وخطابه، بل قبل ذلك كله كان هذا من هدي ومنهج القرآن الكريم في خطابه للأمة.

يا فتاة إنني حين أتحدث عن قضية الفتاة فلست أتحدث من فراغ، ولا أبني قصوراً في الرمال، أتحدث عن واقع رأيته ولمسته، وحدثني عنه الثقات، فقد قرأت بعيني تلك الرسالة التي سطّرتها فتاة لصديق لم يستقبلها بالأحضان واعتذر عن مبادلة القبلات، فعاشت جحيماً لا يُطاق لتكدر خاطر من كان لا يزول عنها الهم إلا بسماع صوته.

نعم قرأت تلك الرسالة التي سطّرتها أناملها لصديق السوء.

والرسالة الأخرى، والتي كانت من شاب تائه لم يدرك الأمانة ولا مسئولية العمل فيأخذ ورقة رسمية ويطبع عليها رسالة غرام بالآلة الكاتبة ليرسلها إلى صديقته.

وسمعت الرواية بسند متصل رجاله ثقات عن تلك المكالمة والتي كانت تفيض عاطفة وقد علا نشيج الفتاة، وارتفع بكاؤها وهي تسمع التهديد بالقطيعة واختيار البديل، فصاحبها يعرف عشرين فتاة غيرها، وسيختار أوفاهن له وما أبعده عن الوفاء! إنها صور كثيرة يا فتاة، لا أظن أني مهما بلغت من الإحاطة وحفظت من النماذج لا أظن أني سأدرك ما تدركين، وأحيط بما تحيطين، فأنتِ تعيشين هذا العالم، ولن أثير بعد ذلك في كشف الأسرار والحديث عمّا وراء ذلك، لكني أردت أن أقول لكِ: إني لا أتحدث من فراغ.