للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أنه لا يطغى عليه خلق فيخرجه عن الحق فيه]

الجانب الثاني: إن الكثير من البشر حين يُرزق خلقاً فإنه أحياناً قد يطغى عليه في مواقف كثيرة ويخرجه عن الحق، خذ مثلاً من رزق الرحمة، وصار صاحب قلب رحيم يتحدث الناس عن رحمته، لا شك أنه يفعل خيراً كثيراً ويحسن للناس ويرق قلبه لما يراه من أحوال الناس، لكن ألا ترى أن هذا الرجل قد يأتي موطن يتطلب منه سوى ذلك فلا يستطيع فتغلبه تلك الشفقة والرحمة فتخرجه عن الحق.

وقل مثل ذلك فيمن رزق السخاء والجود فصار لا يطيق أن يمسك مالاً يرى الناس يحتاجون إليه، ألا ترى أنه قد يتحول ذلك أحياناً إلى ترف وتبذير للمال في غير محله؟ أو ذاك الذي رُزق الشجاعة فصار الناس يغدون ويروحون بالحديث عن أخبار شجاعته وبطولاته، ألا ترى أن هذه الشجاعة تتحول إلى باب من أبواب التهور؟ أو قل على الأقل قد تخرجه عن الحق في موقف من المواقف وموطن من المواطن.

أما النبي صلى الله عليه وسلم فلا، إنه صلى الله عليه وسلم الذي لا يرد سائلاً والذي لا يرد شافعاً، إنه الرحيم صلى الله عليه وسلم بأمته، بل لا يبلغ أحد رحمته صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم الذي يقبل شفاعة الأمة وشفاعة العبد، وشفاعة الصغير والكبير، وهو الذي يرحم الصغير والكبير، ها هو صلى الله عليه وسلم في موقف يتطلب منه الحق خلاف ما قد يسلكه بعض الرحماء، فنرى منه صلى الله عليه وسلم أن هذه الرحمة وأن هذا التقدير للناس وقبول شفاعتهم لم يخرجه صلى الله عليه وسلم عن الحق، إنه صلى الله عليه وسلم الذي يقبل شفاعة الأمة ويأتي يكلم زوجها، يأتي صلى الله عليه وسلم يشفع لرقيق من الأرقاء لدى أسياده.

بل يأمر صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يشفعوا فيقول: (اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء)، حين سرقت امرأة في مكة ذات جاه، وثقل على الناس أن تُقطع يدها أرادوا أن يشفعوا لدى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: من يتجرأ عليه صلى الله عليه وسلم إلا أسامة حبه صلى الله عليه وسلم وابن حبه، فجاء أسامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أتشفع في حد من حدود الله) ثم قام صلى الله عليه وسلم فصعد المنبر فقال: (إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).

إنها فاطمة رضي الله عنها التي يؤلم النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤلمها، والتي كان من شأن النبي صلى الله عليه وسلم حين حدث أنه ستكون لها ضرة ما كان من شأنه صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لو أنها سرقت لقطع صلى الله عليه وسلم يدها، ويرد النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة أسامة وهو حبه وابن حبه ويغضب صلى الله عليه وسلم لهذا الموقف.

وهكذا فإنه ما من خلق يُمدح به النبي صلى الله عليه وسلم إلا وتراه تحت دائرة الحق لا يخرجه عن الحق، وهذا أمر ينبغي لأولئك الذين طُبعوا وجُبلوا على خلق كريم أن يضبطوا أنفسهم بهذا الضابط، وألا يخرجهم هذا الخلق عن حدود الشرع، إن من جبله الله على الحياء، أو على الكرم، أو على الشجاعة، أو على الجود، أو على الصبر، أو على هذا الخلق وذاك ينبغي أن ينظر لنفسه مراراً، أن يكون هذا الخلق داخل دائرة ما يرضي الله تبارك وتعالى، فإذا شعر أنه سيخرجه عن الحق فإنه حينئذ يصبح خلقاً مذموماً.