للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حفظ الله لأوليائه والسنن التي يجري ذلك وفقها]

جانب آخر عجيب في هذه القصة: حين ذهب هؤلاء وغادروا قومهم فرأوا كهفاً فقال: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف:١٦]، قال تبارك وتعالى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:١٧ - ١٨].

لقد حفظهم الله عز وجل وحماهم بأمور عدة: أولاً: أن جاءوا إلى هذا الكهف، فالشمس إذا طلعت تزاور عنه ذات اليمين، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال، فاختير لهم من هذا الموطن وهذا الكهف الذي لا تدخله الشمس حينما تطلع أو حينما تغرب، ولهذا ذهب بعض المفسرين إلى أنه إلى جهة الشمال، فاختار الله لهم هذا الكهف.

ثانياً: أصبحوا يقلبون ذات اليمين وذات الشمال حتى لا تبلى أجسادهم: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:١٨].

ثالثاً: ألقي عليهم الرعب والمهابة بحيث لو رآهم أحد فر منهم.

إنه حفظ الله لأوليائه، وفيه عبر: أولاً: أن الله حفظهم من حيث لا يحتسبون ومن حيث لا يظنون، فأمر الله فوق ما يفكر فيه البشر ويدور فيه البشر، حينما جاء هؤلاء الفتية أرادوا أن يختفوا وأن يستريحوا وأن يناموا، ربما ناموا تحت شجرة، أو في كهف إلى جهة المشرق، أو في كهف إلى جهة المغرب، وما كان يدور في بال أحدهم أنهم سينامون هذه القرون وسينامون هذه السنين الطويلة، فاختار الله لهم أمراً لم يدر في بالهم، جاءوا فوجدوا هذا الكهف وأووا إليه، لكن الله اختار لهم هذا الكهف، إذاً فأمر الله وإرادة الله فوق ما يتصور الإنسان، والله عز وجل يحفظ أولياءه وعباده من حيث لا يحتسبون من حيث لا يظنون والعاقبة أمرها إلى الله عز وجل.

أمر آخر أيضاً حول حفظ الله لأوليائه: سنة الله تبارك وتعالى أن الله يجري أسباباً عادية، إن الله عز وجل كان من الممكن أن يحفظهم، وقدرة الله عجيبة، بل هذا الحدث فيه قدرة عجيبة أن يبقى هؤلاء نائمين ثلاثمائة سنة، لكن الله عز وجل كان يمكن أن يحفظهم وهم قد ناموا تحت شجرة، أو ناموا تحت كهف إلى جهة المشرق أو إلى جهة المغرب، ويمكن أن يحفظهم الله عز وجل ويحميهم، لكن سنة الله عز وجل أن يسيروا وفق أسباب طبيعية، ثم قد تأتي الخوارق بعد ذلك.

وهذا فيه تربية للأمة؛ لأن حينما يكون هناك جيل يتعلق بالخوارق يبقى جيلاً غير عملي فلا يحمل المسئولية، ويجب أن نحذر من هذا في تربيتنا اليوم للحيل الذي يراد منه حمل الرسالة حينما نقول له: إن الله سينصر دينه وسيتم كلمته، فإن هذا حق وأمر الله فوق كل شيء، لكن يجب أيضاً أن نقول لهؤلاء: إن النصر والتمكين لا يكون إلا على أعتاب التضحيات والبذل والجهد، فهذه سنة الله عز وجل.

ففي قصة مريم حينما أجاءها المخاض إلى جذع النخلة أوحى الله عز وجل إليها: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم:٢٥] يقول بعض المفسرين: النخلة لو هززتها ما أسقطت تمرة، هل يستطيع أحد أن يهز جذع النخلة فتسقط عليه من الرطب فضلاً عن امرأة تعيش حالة نفسية صعبة وهي لا تزال في ساعة الولادة فتؤمر بهز النخلة، أعني أننا قد لا نتصور أن هزها لجذع النخلة هو الذي سيساقط عليها الرطب، لكن سيسقط عليها الرطب وتهز لتربي الناس على بذل الجهد والسبب.

خذ مثالاً أوضح في قصة أصحاب الأخدود حين جاء الغلام ورأى الناس قد وقفوا وراء دابة قد سدت الطريق، فدعا الله عز وجل فقال: اللهم إن كان دين الراهب أحب إليك من دين الساحر فاقتل هذه الدابة على يدي وأخذ حجراً فرماها به فقتلها، والحجر لا يقتل الدابة وإلا فالناس ليسوا عاجزين حتى يأتي هذا الغلام ليرميها بحجر، إنما كانت آية، فهل تعيش الأمة اليوم هذا المعنى؟ وهل نشعر أن من مسئوليتنا أن نبذل الأسباب في كل شيء ونجتهد، وانظر إليهم كيف بذلوا السبب، وسنأتي إلى قضية أخرى في ختام الحديث أيضاً تشير إلى هذا المعنى وأن هذه الروح كانت موجودة عندهم.

إذاً: فسنة الله عز وجل أن يحفظ أولياءه من حيث قد لا يحتسبون، وأن يجري ذلك وفق سنن طبيعية ثم قد تأتي خوارق.

وأمر آخر: الله عز وجل قال في أول هذه الآيات: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:٩]، ليست هذه أعجب آيات الله