للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المقصود بالعلم المفقود]

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: فأول سؤال يطرح نفسه ما المقصود بالعلم المفقود؟ وأظن البعض يتساءل وهو يسمع هذا العنوان: ماذا يقصد بهذا العنوان: (العلم المفقود)؟ هذا العلم المفقود هو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم كما روى ذلك الإمام الدارمي وغيره عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال: هذا أوان يختلس العلم من الناس، حتى لا يقدرون منه على شيء، فقال زياد بن لبيد الأنصاري: يا رسول الله، وكيف يختلس وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا، قال: ثكلتك أمك يا زياد إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا يغني عنهم؟ قال جبير: فلقيت عبادة بن الصامت قال: قلت: ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء، فأخبرته بالذي قال، قال: صدق أبو الدرداء إن شئت أخبرتك بأول علم يرفع من الناس، الخشوع، يوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً).

ولا شك أن من يتأمل في حالنا، وفي حال الصالحين من الناس، يرى أن هناك فقداناً لهذا العلم، وأن هذا السمت والهدي الذي ينبغي أن يتسم به أهل العلم والصلاح والتقوى يعاني كثيراً من فقداننا له، والخطورة تزداد حينما لا نشعر بالمشكلة، أو لا نسعى إلى علاجها، والحديث أيها الإخوة حول هذا الموضوع حديث يطول، وأشعر أنني لا يحق لي أن أتحدث حول هذه القضية، لأنني حين أتحدث عن مثل هذه القضية وأحدثكم عن مثل هذا الموضوع، فإنني أشعر أنه يصدق علي قول القائل: فاقد الشيء لا يعطيه، والمتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور.

ولا شك أن من احترام المرء لنفسه ولمن يستمع لحديثه ألا يتحدث إلا بما يحسن الحديث عنه، ولهذا آثرت ألا أتحدث عن هذا الموضوع جملة.

إنما أتحدث عن جانب واحد له أهميته، ولعله من أهم أسباب معاناتنا، وأسباب فقدنا لهذا العلم، ذلكم هو الكلام عن العلم والخشوع، هي الصلة بين العلم والتقوى والصلاح، ذلك أنه في مثل هذه العصور المتأخرة، عاش الناس عزلة بين العلم وبين الرقة والخشوع، حتى ساد عند البعض أن الانشغال والانهماك في مسائل العلم مما يقسي القلب، وصار الوعظ والرقائق باباً آخر غير باب العلم، ولهذا يطلق على فلان أنه واعظ، لا يجيد إلا لغة الوعظ، والآخر فقيه بعيد كل البعد عن الوعظ والتأثير في القلوب، وهذه العزلة المفتعلة لها جذورها القديمة، ولها أسبابها وظواهرها، ولسنا بصدد الإفاضة بالحديث عن أسباب هذه الظاهرة، التي هي ظاهرة قد بدأت منذ قرون قديمة، منذ أن غاب عن الناس روح العلم الشرعي، وتعلقوا بالتقليد والتفريع والتأصيل على قواعد المذاهب وما يتعلق بها، فحين غابت عن الناس روح العلم الشرعي، صرت لا تستنكر أن ترى طالباً للعلم قاسياً قلبه معرضاً.

إن ما أريد الحديث حوله في هذا اللقاء، هو التأكيد والدعوة إلى هذه الصلة، وإلى أن نعيد هذا الاعتبار للعلم، أن يرتبط العلم بالخشوع، وأن يرتبط العلم بالزهد والتقوى والصلاح، وألا نفترض أنهما قسيمان لا يلتقيان، نعم، قد يوجد من الناس مثلاً من يجيد الوعظ والتأثير في القلوب أكثر من غيره، وقد يوجد من الناس من يجيد التفريع والتأصيل في مسائل العلم أكثر مما يجيد تحريك القلوب.

لكن هذا ينبغي أن يكون ضمن دائرة التخصص، لا دائرة التنافر، كما أننا قد نجد من أهل العلم من يجيد علم الحديث أكثر من إجادته للفقه، ومن تكون إحاطته بالتفسير أكثر من إحاطته بعلم الأصول والمعتقد، إلى غير ذلك من التخصصات.

حين تكون القضية باب تخصص واهتمام فالأمر لا غبار عليه، مع التأكيد على القدر المشترك الذي لا بد منه هنا وهناك، أن يحمل الواعظ قدراً من العلم يمنعه ويحميه من الزلل والشطط، والمبالغة هنا أو هناك، وأن يحمل طالب العلم والمتعلم قدراً من الرقة والتقوى والخشوع، تؤدي به إلى أن يقوم بواجب العلم ودوره.

ولعل من أمارات ذلك، أنك حين تلقي نظرة على واقع التعليم الشرعي في بلاد المسلمين، التعليم الذي يقدم حتى في المساجد، وتتصفح في هذا التعليم لتبحث عما ما يحرك القلوب، وما مدى نصيبه، وهل هو قسيم لتعلم الأحكام والحلال والحرام ومسائل الفقه والمعتقد، أم أنه من شأن الوعاظ، الذين لهم شأن آخر وباب آخر غير باب العلم.

أما حين تنتقل إلى التعليم النظامي في الكليات الشرعية في العالم الإسلامي، فإنك لا تكاد أن ترى لمثل هذا العلم أثراً.