للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[طالب العلم معلم بفعله قبل قوله]

إن المؤمل في طالب العلم الشرعي أن يجد في تعلمه وأن يجد في دروس العلم وحلق العلم، ما يحرك قلبه، وما يزيل الران عنه، وما يمحو القسوة التي كثيراً ما يعاني منها.

وإننا حين نطالب بهذا المطلب، تدفعنا لذلك أمور عدة: أولها: أن طالب العلم داعية ومعلم بفعله وعمله قبل أن يكون معلماً بقوله.

إن طالب العلم وهو يسعى لنشر الخير والعلم لدى الناس، لا يقتصر دوره على مجرد تبليغ المسائل بقوله، بل يجب أن يرى الناس ذلك من خلال سلوكه وسمته.

ولهذا يقول أبو العالية رحمه الله: كنا إذا أتينا الرجل لنأخذ عنه نظرنا إلى صلاته، فإن أحسن الصلاة أخذنا عنه، وإن أساء لم نأخذ عنه.

بل كان السلف يعدون تعلم هدي العالم وسمته، مطلباً أعلى من تعلم المسائل، ويعد المتفقه والمتأدب والمتعلم على أحد أهل العلم أنه إن ظفر بتعلم هدي هذا العالم وسمته فقد ظفر بخير كثير، ولهذا يقول إبراهيم: كنا نأتي مسروقاً فنتعلم من هديه ودله.

وهذا الأثر رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله.

وروى أيضاً عن ابن سيرين: كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم.

نعم كانوا يعنون بتعلم الهدي والسمت والخشوع والصلاح، تماماً كما يعنون بتعلم العلم.

ونقف مرة أخرى عند هذا الأثر لنتساءل كيف نتعلم نحن هذه الأبواب الهامة من العلم؟ بل التي يعدها البعض -للأسف- خارج دائرة العلم، ويرى أن العلم أن تحفظ قول فلان وفلان في المسألة، وأن تحفظ طائفة من النصوص، وتتقن قدراً من المتون، أما هذه فلها باب آخر وشأن آخر.

فهل نحن نعتني بتعلم هذه الأمور ودراستها كما نعتني بتعلم مسائل وأبواب العلم؟ لعل إدراك هذه الحقائق يجيب على تساؤل طالما طرحناه: لماذا قلوبنا قاسية؟ روى ابن المبارك عن مخلد بن الحسن قال: نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من حديث، وأوصى الأديب الشهيد وهو من الفقهاء ابنه فقال: يا بني، أصحب الفقهاء، وتعلم منهم وخذ من أدبهم، فإنه أحب إلي من كثير من الحديث.

إن هذا أيها الإخوة يدعو طالب العلم إلى أن يدرك ويعي أنه لا يمكن أبداً أن يدعو الناس بما يقوله ويسطره فقط، بل إنما يتعلم الناس منه بهديه وسمته وأحواله وخشوعه وتقواه لربه تبارك وتعالى، أضعاف أضعاف ما يتعلمون ويفقهون من قوله، وما يرونه من حاله فإنه أعظم أثراً مما يسمعونه من مقاله.

ولا شك أن العلم حين لا يكون وسيلة وخطوة للتعليم والدعوة ونشر الخير فإنه يصبح ترفاً وتكثراً، ويصبح وسيلة لأن يكون حجة على العبد يوم القيامة، حين يسأل عن علمه ماذا عمل به.

الأمر الثاني: أن هناك عوائق تعترض طالب العلم، وهي عوائق تعترض الناس أجمع، لكنها في شأن طالب العالم أكد، فهي أخطر وأعظم أثراً عليه، وهذه العوائق لن يستطيع أن يتجاوزها طالب العلم، إلا حين يعنى بتعلم هذا الباب من العلم المفقود.