للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

خلط المصطلحات والنصوص الشرعية وتنزيلها تنزيلاً خاطئاً

الخطأ الثالث: الخلط في المصطلحات الشرعية وتنزيلها على غير مواقعها.

إننا نسمع الحديث كثيراً من خلال المصطلحات الشرعية التي جاء بها الشرع، سواء أكانت ثناءً أم كانت في مقام الذم والمنع، إننا نسمع الحديث عن الفتنة وأن الشرع قد جاء بذم الفتنة وإثارتها والدعوة إليها، وهي قضية لا يخالف فيها مخالف، ولا يجادل فيها مجادل، ونسمع الحديث عن المصلحة وأن المصلحة تقتضي كذا وكذا، وأن هذا الأمر مما دعت إليه المصلحة، وهي قضية مسلمة من أصول هذا الدين، ونسمع أيضاً عن الكثير من العبارات التي جاءت في كتاب الله وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم واستخدمها سلف الأمة، سواءً أكانت في مقام الثناء والمشروعية، أو كانت في مقام الذم والعيب، لكن الذي يحصل أن هذه النصوص وهذه المصطلحات تنزل أحياناً على غير مواقعها، وقد استقر في أذهان الناس أن كل ما يحقق المصلحة فهو مما دعا إليه الشرع، وأن كل ما يجلب المفسدة فهو أمر مرفوض، وينسى الناس أن يناقشوا أن هذا الأمر يحقق المصلحة، أو أن هذا الأمر ابتداع في الدين أصلاً، أو أن هذا الأمر إثارة فتنة، أو أن هذا الأمر كذا وكذا إلى آخر المصطلحات الشرعية.

ولنضرب مثالاً سريعاً على ذلك بقضية يكثر الحديث عنها الآن: وهي قضية إثارة الفتنة، وإثارة الفتنة أمر مرفوض ولا شك، ولا يمكن أن نرى مسلماً يتعبد لله عز وجل ثم يتعمد السعي إلى الفتنة والدعوة إليها، لكن ما هي الفتنة التي جاء الشرع بذمها؟ وما هي الفتنة التي جاءت في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؟ أليست هذه القضية بحاجة إلى أن تحرر وأن توضح ثم تنزل الأحوال عليها، فما كان فتنة فهو مرفوض، وما كان سوى ذلك فلا يمكن أن يوصف بأنه إثارة للفتنة، إن الله تبارك وتعالى يقول في شأن أولئك الذين قاتلوا في الشهر الحرام: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:٢١٧]، لقد قاتل بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الشهر الحرام وعابهم المشركون بأنهم تجرءوا على الشهر الحرام، وتجاوزوا حرمته، فنزل القرآن يقرر خطأ هؤلاء، ويقرر أن القتال في الشهر الحرام أمر كبير لكن الكفر بالله والصد عن المسجد الحرام وعن سبيل الله أشد عند الله تبارك وتعالى: (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)، ما المقصود بالفتنة هنا؟ إنها صد الناس عن دين الله تبارك وتعالى، إننا الآن نسمع الحديث كثيراً عن الفتنة لكن هل نسمع يوماً أن من الفتنة صد الناس عن دين الله تبارك وتعالى؟ وأن من الفتنة السعي إلى إغراق الناس في الفساد والشرك والبدعة وصدهم عن سبيل الله؟ إنها فتنة وأيّ فتنة وهي أشد من القتل، يقول تبارك وتعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:١٩٣]، {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:٣٩]، وهكذا حين نتحدث عن هذه القضية ينبغي أن نجمع النصوص الشرعية مما جاء في الكتاب والسنة وعن سلف الأمة ثم ننزل هذه القضايا على مواقعها.

وقل مثل ذلك في قضية المصلحة والحكمة، وغيرها من المصطلحات التي جاء الشرع بها، إن هذه المعاني مستقرة عند الناس ومقبولة إما إيجاباً أو رفضاً، فالحكمة أمر يسعى إليه الجميع ويقبله الجميع والمصلحة كذلك، والفتنة أمر يرفضه الجميع، والذي يحصل أننا تنزل أحياناً هذه المصطلحات الشرعية على غير مواقعها فيبادر الناس بالقبول والرفض، ويشعر الناس أنها قضية مسلمة بدهية؛ لأن الشرع جاء بتحقيق المصالح؛ ولأن الشرع جاء بدرء المفاسد؛ ولأن الشرع جاء بالحكمة، وجاء بالمنع من الفتنة، ويغيب عن الناس مراجعة تحقيق هذا الأصل، وتنزيل هذه الألقاب الشرعية على مواقعها، وعلى مظانها.