للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إدراك بذل الأعداء وجدهم في حرب الدين]

الأمر الثالث في المقابل: إدراك بذل الأعداء وجهدهم وجديتهم: كم يبذل الأعداء وكم يجتهدون في سبيل نشر ضلالهم وباطلهم وهو منهج أيضاً استخدمه القرآن، يقول تبارك وتعالى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:١٠٤] ويقول تبارك وتعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:١٤٠].

إننا حين ندرك ما يبذله الأعداء من صبر ومن جهد ومن تحمل للمشاق نستهين ونسترخص ما نبذله في سبيل دعوتنا، ونحن كما قال تبارك وتعالى: {فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:١٠٤] إنكم أصحاب منهج حق أصحاب نية صادقة خالصة؛ ولهذا حين يدرك المسلم ما يبذله الأعداء من جهد وجلد وصبر لأجل حرب هذا الدين لأجل نشر الباطل لأجل تحقيق شهوات الدنيا؛ يشعر أنه هو أولى أن يكون جاداً أولى أن يبذل أضعاف ما يبذله أولئك.

والحديث حول هذا الجانب يطول لكني أشير إلى موقف عجيب رأيته بعيني: قرية نائية في دولة كينيا من دول أفريقيا، لا تستطيع أن تصل إليها بالسيارة، فيها رجل منصر، ذهبنا إلى تلك القرية وزرناها، فوجدنا أساليب الحياة الضرورية فيها غير متوفرة، رجل جاء من أوروبا وبقي فيها عشرين سنة تقريباً لأجل أن ينصر المسلمين ويذهب ويسافر إلى أوروبا ويتلقى دعماً مباشراً من المؤسسات التنصيرية التي هناك، ويقيم المشاريع ويحفر الآبار ويبني المدارس لأجل أن ينصر أبناء المسلمين، وبالفعل تنصر فئات من المسلمين في تلك القرية والمنطقة؛ لأنهم لا يملكون الماء، وهذا الرجل هو الذي يحفر البئر فيعطيهم حتى يتنصروا فهذا رجل أوروبي اعتاد حياة الترف حياة النعيم حياة اللهو واللعب، يأتي إلى تلك البلد بلد أمراض فقر متطلبات الحياة الضرورية لا يكاد يجدها ليس هناك اتصال بالعالم الخارجي ليس فيها أي وسيلة من وسائل الحياة الضرورية، ومع ذلك يبقى فيها عشرين سنة.

ونحن الذين كثيراً ما نتحدث عن الدعوة والتضحية في سبيل الدعوة، وحاجة الأمة للدعوة، ونتحدث كثيراً عن سيرة مصعب بن عمير رضي الله عنه وما بذل حين يعين أحدنا في منطقة نائية جميع الخدمات فيها متوفرة ويذهب إليها بسهولة ويتصل بأهله متى شاء، ويسافر متى شاء، ينتظر اليوم الذي يستطيع أن ينتقل فيه من هذه البلدة، ويبدأ يبحث عن حجج ومعاذير، وقد نفع الله على يديه كم نفع الله على يد هؤلاء الشباب الذين يغتربون؟! ويغترب ويرتاح ويبتعد عن ضجيج المدينة وصخبها وكل وسائل الحياة متاحة له، والناس يستمعون إليه ويتقبلون ويرى نتاج عمله، ومع ذلك يتذمر ولا يكاد يبقى سنة أو سنتين إلا وقد أدركه اليأس وشعر أنه يريد أن ينتقل يريد أن يذهب، أين الحديث عن الدعوة وعن البذل والعمل والنشاط! أذكر أحد الشباب تعين في منطقة محتاجة ودرس فيها سنة واحدة، ثم انتقل وأتى وأعطاني برنامجاً جيداً واقترح برنامجاً دعوياً للمنطقة وأعطاني إياه، فرميته عليه وقلت له: اسمح لي يا أخي الكريم! إذا كنت جاداً فابق هناك! فمن السهل جداً أنك تأتي وتقترح برنامجاً على الناس تريد أن يقدموه، لكن العمل والنتاج الذي نريد هو أن تبقى هناك وأن تقدم وأن تعلم الناس بما أعطاك الله، ليس بالضرورة أن تكون صاحب علم وصاحب موسوعة ليس بالضرورة أن تكون صاحب قضايا بعيدة، والوسائل حتى الآن متوفرة وكل ما تريد يمكن أن يتيسر لك، فإذا كانت القضية تهمك وتشغل بالك فابق هناك حتى تترك الأثر.

هل نحن نبذل كما يبذل المنصرون؟ والنهاية أن جهدهم يضيع ومع ذلك يصبرون ويتحملون العجيب أن في نفس المنطقة جاء مجموعة من الشباب قدراتهم متواضعة ومحدودة ورآهم بعض الدعاة في تلك المنطقة وشعروا بالمشكلة، فقدموا بعض الأعمال وحفروا بئراً فبدأ الناس يعودون ويتركون هذا الرجل المنصر، وبدأ يشعر بالإفلاس، ومع ذلك فهو باق ومتحمل وهو يشعر فعلاً أن النتاج الذي يحصله لا يتناسب مطلقاً مع الجهد الذي يبذله.

لا أريد أن أطيل في هذه القضية لكن أشعر أننا بحاجة أن ندرك ما يبذله الأعداء في كل مجال وما يتحملون في سبيل نشر أفكارهم، ماركس وإنجلز اللذين كانا وراء نشر الفكر الشيوعي في نصف الكرة الأرضية يوماً من الأيام وكانا وراء دولة حكمت نصف العالم وكان الغرب يرهبها، بقيا في السجن كثيراً واغتربا وطوردا من بلد إلى بلد! واليهود كم تحملوا وكم بذلوا حتى استطاعوا أن يجتمعوا كانوا شرذمة في الآفاق حتى جاءوا مصداقاً لوعد الله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء:١٠٤] كم بذلوا في سبيل تحقيق هذا الهدف والتخطيط له؟! يا إخوان! نحن المسلمين أسمى وأعلى هدفاً: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِ