للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إنكار على داعية إلغاء العواطف]

مع ذلك كله نسمع من يدعو إلى إلغاء العاطفة، بل من يدرج العاطفة ضمن مراتب الجرح، فيصف فلاناً بأنه صاحب عاطفة، أو بأنه متحمس، وكم نرى العتب واللوم على ذاك الذي أغاضه انتهاك لحرمة من حرمات الله عز وجل، فدارت حمالق عينه، وغضب غضبة لله عز وجل، حينئذٍ يوصف بأنه متحمس طائش، بأنه لا يحسب عواقب الأمور.

أما ذاك الذي لا تثيره حرمات الله عز وجل، لا تحرك لديه ساكناً، الذي يرى المنكرات، ويرى مصائب المسلمين، ويرى جسد المسلمين يقطع إرباً إربا، ومع ذلك لا تهتز مشاعره، ولا تتحرك عواطفه، ذاك يوصف بأنه رجل حكيم حصيف لبيب، يضع الأمور في مواضعها.

إنني أحسب أن هذه قسمة ضيزى، أحسب أن هذا جور في الحكم، إننا ومع رفضنا للإغراق في العاطفة إلا أننا نرى الغضب والحمية لدين الله من واجبات المسلم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هيناً سهلاً ليناً، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه صلى الله عليه وسلم شيء.

ويوصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم كانوا يتناشدون الشعر، فإذا أردت أحدهم على دينه دارت حمالق عينه، أليس هذا تعبيراً عن الغضب والغيرة لحرمات الله عز وجل؟! وكيف نصنع بتلك المواقف الفذة من سلف الأمة، التي وقفوا فيها غضباً وحمية لدين الله عز وجل، حمية مجلجلة، واضحة صريحة قالوها؟! ولا شك أن الذي دفعهم لذلك هو الحماس، نعم، والغضب، نعم، والعاطفة، نعم، لكنها عاطفة صادقة، وحماسة صادقة، فالمطالبة بإلغاء الحماسة والعاطفة مطالبة بتغيير خلق الله عز وجل، وتغيير سجية فطر الله سبحانه وتعالى عباده عليها.

وكما أننا ننكر على من يكون دافعه ووقوده الحماس والعاطفة وحدها، فإننا -أيضاً- ينبغي أن ننكر -وبنفس القدر- على ذاك المتبلد الحس، الذي يرى مصائب المسلمين، ويرى دماء المسلمين تجري، ويرى حرمات الله تنتهك، ويرى دين الله عز وجل ينقض عروة عروة، ومع ذلك لا يحرك فيه ذلك ساكناً، ولا يثير فيه حمية، ولا يغضب لله عز وجل، أيهما أولى أن يعاب؟ أيهما أولى بالذم والنقص والعيب؟ لست أحكم أيهما أكثر خطأً، لكننا حين نتحدث عن خطأ هذا، فينبغي أن نتحدث أيضاً عن خطأ ذاك، ولا يسوغ أن ننظر بعين الأعور، وأن ننظر إلى القضية بعين واحدة.