للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ردة الفعل وعلاج الخطأ بالخطأ]

الخطأ الثاني: ردة الفعل، وعلاج الخطأ بخطأ آخر.

وهذا غالباً ما ينشأ عن زيادة الحماس لمواجهة هذا الخطأ، ولنضرب على ذلك أمثلة: قد يكتشف الإنسان خطأً في نفسه، وحينئذٍ يدعوه الحماس إلى تصحيح هذا الخطأ فيتعامل مع نفسه بردة فعل، ويتعامل مع هذا الخطأ بخطأ آخر، فربما كلف نفسه ما لا يطيق، وربما وقع في خطأ آخر مقابل لهذا الخطأ.

فعلى سبيل المثال: حين يكتشف المرء مثلاً أنه مقصر في طلب العلم الشرعي، ويرى أن أقرانه قد فاقوه وسبقوه، فسيسعى إلى تصحيح الخطأ، ويرسم لنفسه برنامجاً طموحاً لا يطيقه ولا يصبر على بعضه فضلاً عن أن يحيط به كله، وحين يبدأ التنفيذ ويخوض الميدان يصطدم بالواقع، ويرى أن ثمة مسافة هائلة بين المثال والواقع، أي: بين تلك الصورة التي رسمها لنفسه وكان يتطلع إليها، وبين ما كان يمكن أن يصل إليه من قدرٍ من التصحيح، وحين يصل إلى هذا الحال فإنه في الأغلب لا يعود إلى التوازن مرة أخرى، فلو رسم لنفسه مثلاً مقداراً من الحفظ أو قدراً من الوقت يقرأ فيه، أو قدراً من الدروس العلمية يلتزم بحضورها، واكتشف بعد فترة أن هذا البرنامج كان مثالياً وأنه خطأ، فإنه لا يعود إلى التوازن حتى وهو يصحح هذا الخطأ.

إذاً: فيجب أن نحذر الحذر الشديد عند تصحيح أخطاء أنفسنا من الوقوع في ردة الفعل التي قد توقعنا في الغلو والمبالغة، أو قد توقعنا في خطأ آخر في طرف مقابل.

فهذا الذي اكتشف أنه قد وقع في خطأ وإهمال في طلب العلم الشرعي قد يدعوه ذلك إلى إهمال واجبات أخرى، وما أكثر ما نقع في ذلك! وقد يكون الخطأ تجاه أعمال الآخرين، فقد جاء مثلاً أعرابي إلى المسجد وبال فيه فأراد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يعالجوا هذا الخطأ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم أن يعالجوا الخطأ بخطأ آخر كما هو معلوم.

بل القضية تتعدى ذلك حين تكون ردة الفعل مسئولة عن رسم المناهج أصلاً.

فكم نرى من مناهج للتغيير يراهن أصحابها عليها، ويرون أنه لا منهج لتغيير الأمة إلا هذا المنهج، ولا طريق إلا هذا الطريق، وأي امرئ يسلك غير هذا الطريق لا يتصرف هذا التصرف الذي يتطرف فيه أصحابه فهو ضال منحرف زائغ، فهو لا يملك التأهل لإنقاذ الأمة والتغيير، وحين تتأمل في هذا المنهج كله تراه لا يعدو أن يكون ردة فعل تجاه خطأ آخر، ولا نريد أن نضرب الأمثلة فهي واضحة؛ لأن ضرب الأمثلة قد يثير بعض الحساسية، خاصة في الحديث عن مناهج التغيير والمناهج الدعوية.

لكن أنت لو تأملت الواقع ووضعت أمامك قائمة من مناهج التغيير المطروحة في الساحة، لرأيت أن عدداً منها لا يعدو أن يكون ردة فعل لعلاج خطأ في مناهج أخرى، والغالب أن الموقف الذي تتحكم فيه ردة الفعل يقع في خطأ آخر مقابل الخطأ الأول، وربما كان أشد خطأً منه.

إذاً ونحن نعالج الأخطاء، سواء كانت أخطاء أنفسنا أو أخطاء الآخرين، فلا يسوغ أن نعالج الخطأ بخطأ آخر، ولا يسوغ أن ننطلق من ردة فعل دون تأمل فيما نريد أن نسعى إليه، ودون تأمل في المنهج الذي نطرحه بديلاً لعلاج ذلك الخطأ.