للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[موقف مؤمن آل فرعون وصاحب أصحاب القرية]

ويسمع رجل من آحاد الناس مؤامرة تحاك في الظلام لأحد أنبياء الله عز وجل، وهو موسى عليه السلام، فيسمع أن الملأ يأتمرون به ليقتلوه، فيشعر أن من واجبه أن يؤدي دوره، ومن واجبه أن يساهم في كشف هذه المؤامرة لموسى عليه السلام، قال تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:٢٠].

ورجل آخر يسمع بأنبياء الله عز وجل وقد واجهوا ما واجهوا، فيتحمل النصب والتعب واللأواء، قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس:١٣ - ١٤].

ثم جاء هذا الرجل كما يقول الله عز وجل عنه: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس:٢٠ - ٢٥].

لقد شعر هذا الرجل أن القضية ليست قضية الأنبياء وحدهم، فحين يكذبون وحين لا يسمع لهم أقوامهم لا يرى أن عليه أن يسترجع، وأن يحوقل، وأن يندب ويبكي على هذا الدين وهذه العقيدة كيف تضيع ويأفل نجمها فحسب، بل يشعر أن عليه أن يقوم بدوره، فيأتي من أقصى المدينة، ويأتي يسعى ويمشي.

قال ابن هبيرة: تأملت حال هذا الرجل، فرأيته قد جاء من أقصى المدينة، ورأيته قد جاء يسعى على قدميه، ليأتي وهو لا يقول إلا كلمة واحدة، يقول: إن ما يدعوكم إليه هؤلاء حق وصدق، فاتبعوا المرسلين، فالقضية هم يسيطر عليه، فكانت عاقبته أن يعتدي عليه أولئك لأنه خاطبهم بهذا الخطاب، أو لأنه -بمنطق أولئك المتجبرين المتكبرين- تدخل فيما لا يعنيه، فيقتل ويدخل الجنة، وحين قتل ودخل الجنة كان هم قومه يختلج في صدره، {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:٢٦ - ٢٧].

إنه يتمنى أن يعلم قومه منزلته؛ حتى يؤمنوا ويلحقوا به بعد ذلك كله، وأنى لمثل هذه الحقائق المستقرة في قلب هذا الرجل أن يقتلعها الطغيان، وأن يقتلعها الإيذاء، وأن يقتلعها حتى القتل؟! فبعد أن أراقوا دمه لم يزل يختلج في صدره هذا الهم، ولم يزل يبكي على حال قومه، ويتمنى أن يعلموا ما صار إليه؛ علهم أن يلحقوا به، وأن يغفر الله لهم.

ونعود مرة أخرى إلى موسى، فحين جاء موسى، وواجه قومه بدعوتهم، قام رجل مؤمن، {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر:٢٨].

ويعيش في جدل مع قومه وهو يكتم إيمانه، حتى إذا رأى أن الأمر لم يعد فيه مجال للمداراة مع هؤلاء؛ أظهر ما هو عليه فقال: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر:٣٨ - ٣٩].