للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[طلب الكمال والمثالية]

الآفة الثانية: طلب الكمال والمثالية: إن البعض حين يسمع عن حقوق الأخوة في الله، وعن ثمراتها في الدنيا، ويسمع عن أخلاق المتحابين في الله، يوهم نفسه أنه سيعيش في جنة من الحب والود والرخاء، سيعيش مع رفقة لا يمكن بحال أن يسمع من أحدهم كلمة جارحة، أو يرى من أحدهم زلة أو يدرك منه هفوة، فهو يطمح إلى أن يكونوا إخواناً على سرر متقابلين، ويفاجأ فيما بعد بخلاف ما كان يحلم به، فيحتمل الأولى، ويصبر على الثانية، ويقبل الثالثة على مضض، وتأتي الرابعة بعد ذلك، فتقول له: إن أولئك ليسوا جادين، إن أولئك لا يعرفون حق الأخوة، ولا معاني الأخوة، إن هذه الأخوة طلاء خارجي، إنها تزويق ومخادعة أكثر من أن تكون محبة صادقة، ولو كان واقعياً مع نفسه لرأى أن السبب في ذلك أنه كان يتطلع إلا ما لا يمكن أن يحصل في دار الدنيا، ولو كان واقعياً لقال لنفسه: إن البشر يبقون بشراً مهما بلغوا من التقوى والصلاح والإيمان، ومحبة الخير للناس، فلا يمكن أن يبلغ أحد منهم درجة العصمة والسلامة من الخطأ.

فهذه الأخوة وإن كانت أخوة في الله، ومحبة من أجله، فهي بنيان بشري، وهي عمل بشري، وهي جهد بشري لا بد أن يصيبها جهد البشر، ولا بد أن يرى من إخوانه الأسخياء الورعين الصالحين الهفوة والزلة والخطأ في أنهم بشر.

ثانياً: يقول الله عز وجل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:٤٧]، لو فكرنا -معشر الإخوة الكرام- في هذه الآية لرأينا أنها تدعونا إلى أن نكون واقعيين في تلك البحبوحة التي نتصورها من هذه الأخوة، فإن الله عز وجل حكى أنه نزع ما في صدور أهل الجنة من غل، وهذا يعني أنه كان في النفوس ما فيها، وكان بينهم ما كان، والجنة دار طيبة لا يدخلها إلا ما كان طيباً محضاً، فيحبسون حينئذٍ فينزع الغل منهم، حتى يتأهلوا لأن يدخلوا هذه الدار الطيبة المحضة، ثم هذا نعيم يمتن الله به على أهل الجنة، أفترون أن أحداً في دار الدنيا يمكن أن يدرك نعيم الجنة قبل أن يموت؟! إذاً: فنحن نكون مثاليين حين نطلب من إخواننا أن لا يصدر منهم زلة ولا هفوة، حين نتطلع إلى هذه الصورة المشرقة المبالغة في الخيال فنطلب نعيم الجنة، ولن يدخل أحد الجنة في دار الدنيا.

ثالثاً: نقرأ في سيرة خير القرون الرعيل الأول، فرط هذه الأمة، أولئك الذين امتن الله عليهم فألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمة الله عز وجل إخواناً، أولئك الذين امتن الله سبحانه وتعالى على محمد صلى الله عليه وسلم بأن ألف بين قلوبهم، وأنه صلى الله عليه وسلم لو أنفق ما في الأرض جميعاً ما ألف بينهم، فمع تلك الصورة المشرقة التي رسمها هذا الرعيل في وسط تلك الجاهلية الظلماء إلا أننا نقرأ فيها بعض ما قد كان يعكر هذه الصورة ويخدش في هذه الأخوة.

رأى أحدهم أبا ذر رضي الله عنه ومعه غلام وعليه حلة، وعلى غلامه حلة مثلها، فسأله كيف يلبس رقيقه كما يلبس، فقال: إني ساببت رجلاً فعيرته بأمه، فقال لي صلى الله عليه وسلم: (عيرته بأمه؛ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس).

إن أبا ذر رضي الله عنه من خيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن السابقين إلى الإسلام، ومع ذلك تأتيه حالة من حالات الضعف البشري فيعير رجلاً بأمه، يعيره بمقاييس الجاهلية، لكنه رضي الله عنه ما يلبث أن يستفيق ويستيقظ مع هذا التوجيه النبوي فيتجاوز تلك الهفوة ليعطينا صورة مشرقة يعجز عنها الكثير من المسلمين الآن يلبس خادمه كما يلبس، ويطعمه كما يطعم، ويعتبره أخاً له! وفوق هذه الصورة، أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وعمر بن الخطاب كثيراً ما كان صلى الله عليه وسلم يقول: (خرجت أنا وأبو بكر وعمر، وأتيت أنا وأبو بكر وعمر)، كانا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول أحدهم: أمر فلاناً؛ فيقول صاحبه: أمر فلاناً، فيرد عليه: ما أردت إلا خلافي، فيقول: ما أردت خلافك، فترتفع أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم، وينزل قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات:٢]، ومع ذلك تبقى حدثاً عارضاً ثم تزول، لكن أولئك كانوا يدركون تماماً أن هذه الأخوة مع عمق بنيانها وقوة أركانها تبقى أخوة بشرية قد يأتيها ما يعكرها، قد يأتيها ما يهزها لكنها كالعاصفة التي تهب ثم تزول، ولا تزيدهم إلا ثباتاً ورسوخاً، فالذي يحصل أن المرء يتطلع إلى صورة مثالية، فيعتبر هذه العواصف والخوادش شهادة إدانة على عدم صدق الأخوة والمحبة، ولئن كانت شهادة إدانة أفيحق أن تدين بها الرعيل الأول، فإن كان يحدث ما يحدث بين ذلك الجيل فلأن يحدث مع غيرهم