للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[النبي صلى الله عليه وسلم القدوة الأولى والإمام الأوحد]

إن الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى مهما علا شأن قضية الدعوة لديهم، ومهما ابتكروا من الأساليب والوسائل فهم رهن بمنهج الداعية الأول والإمام الأوحد صلى الله عليه وسلم، والتحرر من ذلك يعني التحرر من المنهج، والعدوان على السنة المتبعة، وولوج الطريق المبتدعة، لذا فنحن حين ندعو إلى أن تأخذ الدعوة بعداً شمولياً لدى أصحابها فتتجاوز الجمود على الأساليب التقليدية التي يرثونها، ندعو في ذات الوقت إلى أن تحاط الدعوة إلى الله عز وجل بسياج الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم، وألا يكون تخطي الأساليب التقليدية لتجاوز هديه، لهذا كان كل داع إلى الله عز وجل أحوج ما يكون إلى أن يحشد النصوص ويحشد الآثار التي تؤيد هذا المنهج الذي يدعو إليه، والتي تعلن للناس أنه لم يأت ببدعة من القول.

ومن صور الاقتداء الواردة في السنة ما كان صلح الحديبية، حين دعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن ينحروا هديهم وأن يحلقوا رءوسهم فلم يستجب له أحد حيث أصاب الناس ما أصابهم من الإحباط؛ ذلك أنهم جاءوا إلى هذا المكان، وكانوا قد سمعوا الوعد من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلوا البيت الحرام، وأن يطوفوا به آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين لا يخافون، فحين رأوا ما رأوا من مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم لقريش، وآلمهم الموقف وهم يرون أبا جندل يرسف في قيوده، ولا يملك الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن يعيده إلى المشركين، فلم يطق أولئك المؤمنون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يستجيبوا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فما كان منه إلا أن أتى أم سلمة رضي الله عنها يشكو إليها عدم امتثال أصحابه لأمره، فأشارت عليه أن يخرج ولا يكلم أحداً، فيدعو بالحلاق فيحلق رأسه، ثم ينحر بدنه، فخرج صلى الله عليه وسلم وفعل ذلك، فما كان من الناس حين رأوا ذلك إلا أن اجتمعوا يحلق بعضهم لبعض حتى كاد يقتل بعضهم بعضاً من الغم.

وكان صدق حاله صلى الله عليه وسلم من أعظم ما استدل به البعض على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم حتى دخلوا في الإسلام، ومن هؤلاء عبد الله بن سلام رضي الله عنه إذ قال بعد أن رآه: فعرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب.

لقد كانت حال النبي صلى الله عليه وسلم ناطقة بصدقه، وأنه لم يكن ينطق عن الهوى، وأنه كان يأتي بالوحي من الله تبارك وتعالى، وأنه إنما كان يأتيهم بخبر السماء؛ لذلك كانت حاله وحدها كافية في دعوة الكثير من الناس للإسلام، فمن رآه صلى الله عليه وسلم عرف الصدق في وجهه.

ومن الناس من دخل في الإسلام وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم لموقف أبصره أو مشهد رآه، والسيرة تزخر بالكثير من هذه المواقف التي دخل فيها فئام من الناس الإسلام، وأعلنوا متابعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم لما رأوه من المواقف.

واختار الله عز وجل له أن يكون في مبدأ حياته أميناً صادقاً ليكون ذلك مرآة على صدقه، وليقرأ في سيرته وهديه -من سمع بدعوته- الصدق وسمو المنهج، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يلقب بالصادق الأمين، حيث عاش مع بني قومه أربعين سنة عرفوا منه خلالها الصدق والإحسان للناس، والأمانة وحسن الخلق، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يجاريهم في مجونهم ولهوهم، إن تلك الحال التي كان يعيشها صلى الله عليه وسلم كانت دعوة صامتة، وكانت إشارة إلى أولئك الجادين في معرفة الحق أن هذا الرجل الذي عرفوا مدخله ومخرجه، وعرفوا سيرته لم يكن ليتحاشى الكذب على الناس، ثم يتجرأ على الكذب على الله تبارك وتعالى، وهو أمر لم يختص به النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأنبياء، بل يحكي الله تبارك وتعالى عن قوم صالح أنهم قالوا: {قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود:٦٢]، نعم لقد كانت سيرة صالح في قومه كسيرة محمد صلى الله عليه وسلم وكسيرة سائر الأنبياء، لقد كانوا يرجون فيه الخير، ويؤملون فيه الخير، فلما دعاهم إلى الله تبارك وتعالى وإلى أن يفارقوا ما كانوا عليه خاب ظن أولئك الضالين بنبيهم صالح، وقد كانوا يؤملون فيه الخير، وأي خير أعظم من أن يدعوهم إلى عبادة الله تبارك وتعالى وحده.

إذاًَ: ها هي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وها هي حياته تزخر بالعديد من المواقف التي تظهر أنه لم يكن داعية بمقاله فقط، بل كان صلى الله عليه وسلم داعية إلى الناس بحاله ومواقفه، وها نحن نرى الناس الصادقين، نرى الناس المتعبدين لله تبارك وتعالى، لا يخطئهم هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، نراهم يسعون إلى أن يعرفوا كيف كان صلى الله عليه وسلم يصلي، وكيف كان صلى الله عليه وسلم يصوم، وكيف كان صلى الله عليه وسلم ينام ويستيقظ، وكيف كان يضحك صلى الله عليه وسلم، وكيف كان في سفره وإقامته، وفي سلمه وحربه، وفي أحواله كلها صلى الله عليه وسلم.