للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صدق العاطفة من قبل الداعي]

المجال السادس من مجالات الدعوة الصامتة: العاطفة الصادقة المتوقدة في نفس الداعية، وهي إفراز لمشاعر صادقة تكمن في نفسه ما تلبث أن تبدو على أرض الواقع في سلوكه وفي قسمات وجهه، فيقرؤها كل من يراه لتترك في نفسه أثراً يفوق ألف خطبة وألف محاضرة، ويشعر الناس وهم يتعاملون مع هذا الصنف من الناس بما يحركهم ويدفعهم من الداخل، وما نزال نسمع الكثير ممن يتحدث عن العاطفة حديث الذم والنقد، حتى صار من مراتب الجرح والتنقص للمرء أن يقال فيه: إنه عاطفي أو متحمس، وربما صار ذم هذا النوع من الناس مهرباً للبعض الذي قد تبلد حسه تجاه المنكرات، وتجاه مصائب الأمة، فصار حين يطلب منه التفاعل أو يشكى إليه الحال يتنهد قائلاً: إن الأمور لا تعالج بالعواطف، ولا تعالج بالحماس.

نعم إن الإغراق في العواطف مرفوض والانطلاق وراء الحماس وحده تهور، لكن الدعوة إلى إلغاء ذلك كله تطرف هو الآخر.

ولعل سائلاً يتساءل: هل خلق الله تبارك وتعالى هذه العواطف الجياشة عند الناس عبثاً؟ لم يعد يقبل أهل الطب والعلم اليوم أن يكون هناك عضو من أعضاء الإنسان لا يؤدي دوراً، فكيف يقبل أن تكون هذه المشاعر المشتركة لدى عامة الناس، والتي تمثل وقوداً لأعمال ومواقف شتى يقوم بها المرء، كيف يكون ذلك كله عبثاً لا فائدة منه، ويذم المرء حين يتصف به؟ إننا حين نذم أولئك الذين يتهورون فيعملون أعمالاً لم يحسبوا لها حساباً، والذين لا يدفعهم إلا الحماس غير المنضبط، فإننا لا نعذر أولئك المثبطين القاعدين الذين قد تبلد حسهم، وماتت أرواحهم، وهم يرون الأمة تنحر، ويرون الكفر يعلن صراحاً في هذه الأمة، ويرون الأمة يسعى إلى إخراجها من دين الله كما كانت تدخل في دين الله أفواجاً، إن أولئك الذين يرضون بالسكوت والقعود، ولا يزيدون على الحوقلة، أولئك أيضاً قد ارتكبوا منكراً آخر لا يقل عن منكر أولئك: ألا وهو منكر السكوت والقعود عن الحق.

إن الصادق أيها الإخوة الذي يغضب لله عز وجل، والذي يغار على حرمات الله تبارك وتعالى، والذي تكون حاله كحال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يتناشدون الشعر فإذا أردت أحدهم على دينه دارت حماليق عينيه، فكانت حالهم كحال النبي صلى الله عليه وسلم الذي لم يكن يغضب لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمات الله، فإذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه صلى الله عليه وسلم شيء.

إن هذه الأحوال أيها الإخوة أعظم قدوة وأسوة لنا لأن نتأسى بها فنملك العاطفة المنضبطة، والحماس لدين الله تبارك وتعالى، وتلك العاطفة أيضاً التي يملكها أولئك الذين ترق أفئدتهم ويحزنون حينما يرون فقيراً معوزاً يتيماً، أو أولئك الذين يرون مسلماً يظلم، أو يموت جوعاً أو يقتله البرد ولم يجد ما يكفيه، إن أولئك الذي يتفاعلون مع هذه العاطفة أو تلك، ويرى الناس هذا الواقع على أحوالهم وعلى قسمات أوجههم، إنهم يتركون أثراً أعظم بكثير من أثر أولئك الخطباء.