للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الغرور والإعجاب بالنفس]

من أخطر الأمراض التي تصيب النجباء الغرور والإعجاب بالنفس، فإن النجيب يكون بارعاً متفوقاً على أقرانه بالذكاء والاستيعاب، فهو يفهم عندما يتحدث الأستاذ أو يسمع الخطبة أو المحاضرة أو الدرس، وعندما يسمع أي كلام يفهم ما لا يفهمه الآخرون، ويدرك هو أنه أكثر استيعاباً من الآخرين وأكثر فهماً وإدراكاً، ويدرك الآخرون جميعاً أنه يفوقهم، فيحصل على مراكز متقدمة في الدراسة، ويتفوق على أقرانه، في حين أنه يبذل جهداً يسيراً، فهو إذاً يملك أصلاً البيئة التي تؤهله للغرور والإعجاب بالنفس، وحين يعجب بنفسه وحين يقع في الغرور فإنه يكون وقع في أول معصية عصي الله بها، وصار كالشيطان الذي استكبر عن السجود لآدم فعصى الله عز وجل، وإنما أوقعه في ذلك غروره وإعجابه بنفسه، فاعترض على أمر الله سبحانه وتعالى: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:١٢]، والمشكلة أن الإنسان المغرور المعجب بنفسه لا يشعر بذلك أصلاً، فلا يمكن أن تجد إنساناً مغروراً ومعجباً بنفسه يوافقك على أنه بهذا يضع نفسه فوق المنزلة التي يستحقها، فهو يرى أن هذه هي منزلته الطبيعية، وهذا هو مكانه، وإلا لو استطعت أن تقنعه أنه يضع نفسه فوق منزلته، ولو استطعت أن تقنعه أن عنده قدراً من الغرور والإعجاب بالنفس لانتهت المشكلة ابتداء.

وهكذا كل أصحاب هذه الظواهر المرضية لا يشعرون بذلك، فالإنسان الذي عنده غلو؛ غلو في التفكير غلو في العبادة غلو في المعتقد لا يوافقك على أن عنده غلواً، بل لا تجد أحداً من أهل الغلو إلا ويدعي أنه مقصر، وأنه من أهل التوسط، فعندما تناقشه في غلوه، يقول: يا أخي أنا مقصر أصلاً في ذلك، ولو استطعت أن تقنعه فقط أنه قد تجاوز الطريق الوسط وأنه قد غلا حينئذ لانتهت المشكلة، فكذلك لا نفترض من هذا الآن أن يتصور وأن يوافقنا على أنه مغرور، أو على أنه معجب بنفسه، لا نتصور ذلك؛ لأنه لو وافق وأحس فعلاً بأنه عنده غرور وعنده إعجاب بالنفس، ولو أحس أنه وضع نفسه في منزلة فوق المنزلة الطبيعية، حيئنذ فلا بد أن يعود ويضع نفسه في حجمها وموقعها الطبيعي، فأنت يا أخي عندما تفوق أقرانك وتتفوق وتملك موهبة لا يملكها الآخرون، فما الذي يدعوك إلى الغرور؟ أنت يجب أن تعلم أولاً أن هذه الموهبة التي تملكها ليست منك، وما لك فيها أي جهد، يعني: أنت لما تكون إنساناً ذكياً تفهم أكثر مما يفهم الآخرون، وتحفظ أكثر مما يحفظ الآخرون، وتكون فصيحاً أكثر من الآخرين، المهم أنك تملك موهبة متميزة عن الآخرين، فهل حصلت هذه بجهدك أو بكدك أو كد أبيك؟ أبداً، إنها موهبة من الله سبحانه وتعالى، تماماً كما أنك لا تستطيع أن تتصرف في مظهرك، وفي جسمك؛ في طولك وقصرك، وفي تقاطيع وجهك، وكما أنك لا يمكن أن تغير هذه الصورة التي خلقك الله عليها، فكذلك هذا العقل إنما أعطاك الله إياه.

ولو جاءنا مثلاً إنسان يفتخر أن له جاراً ذكياً، وأن له جاراً نابغة لسخر الناس منه، ولقالوا: كيف تفتخر بما ليس لك؟ وكيف تفتخر بما لا تملك؟ فعلى هذا يا أخي حتى لو كنت ذكياً، وحتى لو كنت نابغة متفوقاً هل من حقك أن تفتخر بهذا الشيء الذي ما هو من تحصيلك أصلاً؟ يعني: هذا الذكاء ليس من تحصيلك، وهذا النبوغ ليس من تحصيلك إنما هي نعمة منَّ الله بها عليك، فليس لجهدك ولا لخير فيك إنما هو ابتلاء من الله سبحانه وتعالى، وأنت حينئذ تفاخر بما ليس لك.

كذلك هذه النعمة الله سبحانه وتعالى قادر على أن يسلبها منك، أنت لما تكون ذكياً فالله عز وجل قادر على أن يجعلك معتوهاً أبلهاً، وعندما تكون فصيحاً تهز المنابر فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يجعلك أخرس لا تستطيع أن تفصح عما في قلبك، ولا تستطيع أن تتفوه بكلمة واحدة، إذاً فكما أن الله سبحانه وتعالى قد يسلب من الإنسان نعمة البصر، وقد يسلب من الإنسان نعمة السمع، يمكن أن يسلبك هذه الموهبة، بل يمكن أن تبتلى فتتوجه هذه الموهبة إلى معصية الله عز وجل، فماذا تجني عليك بالله عليك؟! الإنسان الذي يسلك طريق الانحراف؛ سواء كان انحراف شهوة، أو انحراف شبهة أو انحرافاً فكرياً، ماذا يفيده عقله وماذا يجنيه عليه؟ إنه يجني عليه الويل والثبور، وهاهم أساتذة الإلحاد والفساد والمنظرين للضلال والشرك، أتدري ماذا جنى هؤلاء؟ إنهم جنوا وبالاً أكثر، فهذا المنظر لهذه الأفكار الإلحادية يحمل وزره ووزر من أضله إلى يوم القيامة لا ينقص من أوزارهم شيئاً، فكان عقله وذكاؤه وموهبته وبالاً عليه، وأنت كذلك يمكن أن تعاقب بأن تبقى هذه الموهبة عندك لكنها تكون حينئذ وبالاً عليك، تجني ويلها وثبورها.

الأمر الآخر: أن الله سبحانه وتعالى يحاسب الناس على قدر ما أعطاهم، وعلى قدر ما عندهم من العلم، وعلى قدر ما عندهم من القدرات، كل إنسان سيأتي الله سبحانه وتعالى وحده: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا *