للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[موقف الصديق يوم صلح الحديبية]

وهذا موقف عجيب من مواقف السيرة موقف لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعد صلح الحديبية، والموقف في صلح الحديبية كان شديد الصعوبة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان قد رأى أنه يدخل المسجد الحرام ويعتمر، ثم لم يحدث هذا في ذلك العام، ثم بعد ذلك عقدت معاهدة كانت بنودها في الظاهر مجحفة وظالمة للمسلمين، ثم طبقت المعاهدة على أبي جندل رضي الله عنه ابن سهيل بن عمرو الذي عقد المباحثات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطبقت المعاهدة عليه مباشرة بعد إتمام المعاهدة فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين لما جاءه مسلماً، وكان المشهد مشهداً مؤثراً جداً في منتهى المأساة، كل هذه الأمور وغيرها أثرت كثيراً في نفسية الصحابة فأصابتهم بهم عظيم وغم لا يوصف، وكان من أشدهم هماً وغماً عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

فانظر ماذا فعل عمر على عظم قدره وفقهه، وانظر ماذا فعل الصديق رضي الله عنهما.

أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والغيظ يملأ قلبه، يقول: عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! ألست نبي الله حقاً؟ سبحان الله! سؤال شديد.

وطبعاً عمر بن الخطاب لا يشك في كونه رسول من عند الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه يبدي استعجابه واستغرابه، لماذا هذا التنازل الشديد من صف المسلمين؟ قال: (يا رسول الله! ألست نبي الله حقاً؟ قال صلى الله عليه وسلم: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بلى، قلت: علام نعطي الدنية في ديننا؟) وعمر هنا ليس قليل الإيمان، ولو استمع رسول الله صلى الله عليه وسلم لكلامه ولرأيه فستكون الحرب، فـ عمر يريد ما هو أشق على النفس ولا يسأل التخفيف أو التقاعس، بل على العكس يلمح ويقول: (قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار).

ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان من عادته أن يوضح ويبين للصحابة، لكن هنا الرسول صلى الله عليه وسلم يربي الناس على الاستسلام الكامل دون معرفة الأسباب، فما دام الله قد أمر فليس من الضرورة الاطلاع على الحكمة.

قال صلى الله عليه وسلم: (إني رسول الله وهو ناصري ولست أعصيه) يفهم أن هذا الأمر وحي من الله عز وجل، أمره الله عز وجل بذلك فأطاعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك زاد عمر وقال: (قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بلى، فأخبرتك أنك تأتيه العام؟) يعني: هل قلت لكم: إنك ستطوفون السنة هذه؟ قال: (قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به) هكذا في يقين: (فإنك آتيه ومطوف به).

والرسول صلى الله عليه وسلم يصابر جداً عمر؛ لأنه يعلم ما به من الغم، ويعذره، وهذه الدرجة من الإيمان عند عمر هي درجة عالية جداً من درجات الإيمان، أسميها: درجة غليان القلب حمية للدين، وفعلاً قلبه يغلي حمية لهذا الدين حتى وإن ذهبت حياته وذهبت نفسه، لكن تعال على الجانب الآخر وانظر إلى الدرجة الأعلى من الإيمان.

وانظر إلى درجة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، انظر إلى درجة اليقين الكامل فيما قاله صلى الله عليه وسلم والاتباع الكامل لما فعله صلى الله عليه وسلم.

يقول عمر بن الخطاب: (فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر! أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟) لم يقدر أن مش قادر يستحمل رضي الله عنه وأرضاه، فرد الصديق وقال: (أيها الرجل! إنه لرسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره) سبحان الله! إنها نفس كلمات الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنه لرسول الله، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه حتى تموت، فوالله! إنه لعلى الحق).

وهنا يغضب الرجل الرقيق أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه شعر أن في هذه التلميحات إشارة ولو من بعيد إلى شك في وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، هنا رفع صوته وتحدث بحمية: (أيها الرجل! إنه لرسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره) ولم يسكت عمر بعد ذلك، بل قال: (قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، فأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال الصديق: فإنك آتيه ومطوف به).

سبحان الله! إنه يقين ليس فيه قدر أنملة من الشك، فكان عمر يقول: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ؛ مخافة كلامي الذي تكلمت به.

<<  <  ج: ص:  >  >>