للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ثبات الصديق أمام غلبة أهل الباطل]

والصديق أثبت لوناً آخر من الثبات ما عهدناه أمام كثير من الناس، إنه الثبات أمام غلبة أهل الباطل، وكثير من المسلمين ينظرون نظرة إحباط ويأس إلى واقعهم عندما يشاهدون محاور القوة الرئيسية في الأرض في أيدي الكافرين، وعندما يجدون أن الكفار قد ملكوا من المادة والسلاح والعدد والعدة ما يفوق المسلمين أضعافاً مضاعفة، إنها فتنة تحتاج إلى كثير إيمان وكثير فقه وكثير ثبات.

وقد كان الصديق رضي الله عنه هو الرجل المؤمن الفقيه الثابت الذي من الله به على أمة المسلمين وحفظها خير الحفظ ونصح لها خير النصح وجاهد لها خير الجهاد، ففتنة غلبة أهل الردة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فتنة عظيمة هائلة مروعة لا نستطيع في هذا المضمار الضيق أن نوفيها حقها، لكن في هذه المجموعة فقط أشير إلى ثبات الصديق رضي الله عنه وأرضاه هذا الثبات الذي فاق كل تخيل والله! حتى فاق تخيل الصحابة أنفسهم؛ فالفتنة كانت هائلة؛ إذ ارتدت جزيرة العرب بكاملها إلا ثلاث مدن وقرية: مكة والمدينة والطائف وقرية جواثة في منطقة هجر بالبحرين، ولا أقول: كان هناك عشرات الآلاف من المرتدين بل مئات الآلاف، وليس فقط بمنع الزكاة بل منهم من ارتد كلية عن الإسلام، ومنهم من فتن المسلمين في دينهم وعذبهم وقتلهم، ومنهم من ادعى النبوة، وحصلت غلبة عظيمة لأهل الردة وقلة في المؤمنين، في هذا الموقف الحرج رأى جمهور الصحابة أن اعتزال الفتنة بتركها هو الأولى، قالوا للصديق رضي الله عنه: الزم بيتك، وأغلق عليك بابك، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين! إنه يأس كامل في الإصلاح وإحباط يملأ القلوب، وهذا موقف من أصعب مواقف التاريخ قاطبة.

لكن الصديق رضي الله عنه كان أعلم الصحابة وأفقه الصحابة وأثبت الصحابة، فتحول الشيخ الكبير الرحيم المتواضع ضعيف البنية إلى أسد هصور عظيم الثورة شديد البأس عالي الهمة سريع النهضة، فأصر على قتال المرتدين جميعاً وفي وقت متزامن قال في شأن مانعي الزكاة: والله! لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، والله! لو منعوني عناقاً -العناق: الأنثى من ولد الماعز، وفي رواية: عقالاً، وهو: الحبل الذي يربط به البعير- كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه.

وقال في شأن بقية المرتدين الذين يبلغون مئات الآلاف: أقاتلهم وحدي حتى تنفرد سالفتي، يعني: حتى تقطع عنقي.

فكان هكذا بهذه العزيمة وهذه العقيدة، ولما رأى الصحابة هذا الإصرار من الصديق رضي الله عنه انشرحت صدورهم لهذا الحق الذي أجراه الله على لسان هذا الرجل، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما جاء في صحيح البخاري: فوالله! ما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.

وهكذا أخرج الصديق رضي الله عنه وأرضاه الجيوش تلو الجيوش أخرج (١١) جيشاً في ملحمات خالدة وتضحيات عظيمة وتعب وجهد ودم وشهادة ثم نصر وتمكين وسيادة، وأشرقت الأرض من جديد بنور ربها، وحكمت الجزيرة العربية مرة ثانية بالقرآن والسنة، وأعز الله الإسلام وأهله وأذل الله الشرك وأهله، كل هذا كان في عام واحد فقط والحمد لله رب العالمين.

وأيضاً رأينا ثباته رضي الله عنه وأرضاه أمام غلبة أهل فارس والروم، وفارس والروم في ذلك الزمان هما أعظم قوتين عسكريتين في الأرض يقتسمان العالم ويهيمنان على معظم مساحة المعمورة، وكانت كل منهما دولة متقدمة صاحبة حضارة ومال وعمران وجنات وأنهار وأعداد لا تحصى من الرجال وسلاح لا مثيل له في زمانهم وأعوان في كل بقاع الأرض وتاريخ في الحروب وخططها وتنظيماتها وطرقها، والصديق رضي الله عنه وأرضاه كان على الطرف الآخر يحكم دولة أقصى مساحتها جزيرة العرب، ولم تتعود على الحروب النظامية، وكانت فقيرة الموارد ضعيفة السلاح قليلة العدد، ليس هذا فقط ولكنها لم تنفض يدها بعد من حروب أهلية طاحنة أكلت الأخضر واليابس تلك الحروب هي حروب الردة، فيخرج الصديق من هذه الحروب الهائلة بعزيمة أقوى من الجبال ولم تهزه عروش كسرى وقيصر، واتخذ قراراً عجيباً وهو فتح فارس، وذلك بعد أقل من شهر على انتهاء حروب الردة، ثم أتبعه بقرار آخر أعجب بعد خمسة شهور وهو فتح الشام وقتال الروم في وقت متزامن مع قتال الفرس.

وكما ذكرنا من قبل فـ الصديق كان على يقين من النصر، ولم يكن يساوره أدنى شك في أن الدولة الأخيرة ستكون للمؤمنين، وخاض معاركه كلها بهذه الروح، وكتب الله له النصر بعد جهاد طويل ومعارك هائلة وضع فيها الصديق رضي الله عنه وأرضاه خططاً عبقرية وقال فيها آراءً سديدة وفعل فيها أعمالاً مجيدة، ومن المستحيل أن نحصي هذه الأعمال في هذا الإطار الضيق، وسنفرد -إن شاء الله- بعد هذه المجموعة مجموعات أخرى، ولا أقول: مجموعة واحدة، بل مجموعات؛ ففتح فارس قصة عظيمة تمتلئ بالمو

<<  <  ج: ص:  >  >>