للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الأخذ عن الغير]

الصفة العاشرة والأخيرة وبها نختم حتى لا نطيل عليكم إطالة كبيرة: الأخذ عن الغير، وهذه الصفة منبثقة عن التي قبلها التي هي صفة التواضع، لابد أن تتواضع لغيرك، ولابد أن تأخذ عن غيرك، ولابد أن تبدأ من حيث انتهى الآخرون، ولابد أن تعترف لأهل الفضل بفضلهم، وأهل العلم بعلمهم، ولابد أن تشترك مع الآخرين في البحث، فقد كان أبو حنيفة رحمه الله يطرح القضية والمسألة الفقهية بين تلامذته مع علمه العظيم ومع فقهه الدقيق، وانظروا إلى كلمة الشافعي في حق أبي حنيفة رحمهما الله جميعاً، يقول: الناس جميعاً في الفقه عيال على أبي حنيفة.

يعني: كان أبو حنيفة أعلمهم جميعاً في الفقه رحمه الله، ومع ذلك يطرح المسألة بين طلبة العلم من تلامذته فيتناقشون فيها جميعاً، فيدلي كل منهم برأيه وبحجته، ويدلي هو الآخر بحجته، ويتناقشون حتى يخرجوا في النهاية برأي، فهم درسوا القضية من كل الجوانب كفريق، وعقل أبي حنيفة أو غيره من العلماء محدود، فعندما يطرح القضية للتناقش ويشترك مع غيره فيها تخرج أفكار من عقول شتى من هنا وهنا، فيستفيد وتستفيد الأمة، بل وتستفيد البشرية جمعاء.

وحتى في أمور الحياة أيضاً فأولاد موسى بن شاكر الذين تكلمنا عنهم منذ قليل رحمهم الله كانوا في علم الهندسة والميكانيكا يعملون في فريق واحد، من أروع الفرق العلمية المعروفة في التاريخ، بل لعلنا نقول ولا نجازف بهذه المقولة ولا نبالغ فيها: إنهم أول فريق علمي في العالم حقيقة، فهم كتبوا بصيغة الجماعة، فقد كانوا يقولون: فعلنا كذا وجربنا كذا وقمنا بعمل كذا وكتبنا كذا وألفنا كذا يعني: الثلاثة مع بعض، وكل واحد متخصص في مجال، ولكن الثلاثة اجتمعوا جميعاً واخترعوا جهازاً مفيداً ونافعاً للمسلمين لري الأرض، واخترعوا أجهزة لرفع الماء إلى أعلى الجبال والقلاع العالية.

فكل العلوم المفيدة تحتاج إلى أكثر من عقل إلى أكثر من تخصص، فهذا التمازج بين العلماء أدى إلى هذه النتائج الرائعة عندهم، وهذا الأمر لا يكون إلا من عالم متواضع يقبل أن يأخذ عن غيره، لذلك أتينا بهذه الصفة بعد صفة التواضع هذه الصفة العاشرة، فتلك عشر كاملة.

أسأل الله عز وجل أن يجعلنا متصفين بها جميعاً وبغيرها من صفات الإسلام الحميدة، ومن أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم الرائعة التي جاءت في سنته وسيرته وحياته.

وأسأل الله عز وجل أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يعز الإسلام والمسلمين.

{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:٤٤].

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

<<  <  ج: ص:  >  >>