للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[قصة محمد بن الحسن الشيباني وأسد بن الفرات مع العلم]

لقد كان محمد بن الحسن الشيباني لا ينام، هو كإنسان يريد أن ينام، فلا تظنوا هؤلاء الناس لم يكونوا بشراً فـ النووي رحمه الله والبخاري ومحمد بن الحسن الشيباني كان يأتيهم النوم، فالواحد منهم عنده أمور خاصة بأسرته وماله وتجارته! لكن عرف قيمة العلم فبذل الجهد فيه، فـ محمد بن الحسن لم يكن ينام، بل كان يستعين على السهر بالماء البارد، وهو من سكان بغداد وفي الشتاء يكون الجو بارداً جداً، ومع ذلك يأتي بماء بارد ويضعه بجواره، وكلما هجم عليه النوم مسح وجهه بالماء البارد، ويقول: النوم يأتي من الحرارة، والماء البارد يغلبه، فيغسل وجهه كل قليل، يقهر نفسه للجلوس للتعلم.

ومحمد بن الحسن الشيباني وأبو يوسف هما أعظم تلامذة أبي حنيفة رحمهم الله جميعاً.

وهذه قصة عجيبة لـ أسد بن الفرات رحمه الله عندما ذهب لطلب العلم، وأسد بن الفرات من علماء الأندلس وتونس شمال أفريقيا، أتى من تلك البلاد البعيدة ليتعلم في الشرق، فجاء إلى المدينة المنورة فأخذ علم مالك رحمه الله، ثم رجع إلى بلاده ونشر المذهب المالكي في شمال أفريقيا، وهي الآن تونس والجزائر والمغرب، فكل دول المغرب على المذهب المالكي.

فـ أسد بن الفرات ذهب إلى المدينة المنورة وتعلم علم الإمام مالك كله، ولم يكتف بذلك بل ذهب إلى العراق من أجل أن يأخذ علم أبي حنيفة عن محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة، فحين دخل المسجد تفاجأ بوجود أعداد هائلة من البشر، ولم يستطع الوصول إلى محمد بن الحسن، وما زال يأتي مبكراً إلى المسجد حتى إنه في يوم من الأيام استطاع أ، يصل إلى محمد بن الحسن الشيباني وجلس معه بعد ما سمع الدرس وقال له: أنا رجل غريب من بلاد بعيدة قليل النفقة والسماع منك نذر، ولا أستطيع أن أبقى كثيراً في بغداد فماذا أعمل؟ فقال محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله: في الصباح تسمع مع أهل العراق الذين يأتون الدرس، والليل اجعله لك أعلمك لوحدك في البيت.

هذه هي العظمة، وتاريخنا كله عظمة، وقد توجد بعض المواقف السلبية في كل أمة، لكن فتش في كنوز التاريخ الإسلامي، هذا هو تاريخنا، وأنا أذكر فقط بعض الأمثلة لا أذكر كل ما وقعت عليه عيني؛ لأن الوقت لا يتسع لذكرها، فهي تحتاج إلى شهور وشهور، بل سنوات وأعمار حتى نتحدث عن تاريخ علمائنا.

فـ أسد بن الفرات كان يذهب كل ليلة إلى محمد بن الحسن ليعلمه العلم، وكان يسهر مع محمد بن الحسن، وكما ذكرنا أنه متعود على الماء البارد، فكان كلما هجم عليه النوم غسل وجهه، لكن أسد بن الفرات كان إذا هجم عليه النوم قام محمد بن الحسن ورش في وجهه الماء حتى يستيقظ.

هذه لحظات نادرة عظيمة، هذه هي الأعمار وهي أغلى ما تملك، فالعمر رأس مالك، فإن ذهب بعض عمرك يوشك أن يذهب الكل.

وكما تعلمون أن من نام ثمان ساعات في اليوم فإنه لو عاش (٦٠) سنة يكون قد نام ٢٠ سنة من عمره؛ لأن الثمان الساعات هي ثلث (٢٤) فيكون ثلث الـ (٦٠) سنة (٢٠) سنة، بالله عليك خبرني ألا تحزن على هذه السنوات (٢٠) سنة تنامها في (٦٠) سنة، هذا لا ينفع، لكن لا تذهب وتنام غير ساعة واحدة، وإنما بتدرج، وسنتكلم إن شاء الله في دروس قادمة على كيف تستيقظ؟ ليس فقط بالماء البارد، لكن أهم شيء أن تعرف قيمة الشيء الذي استيقظت من أجله، حتى تستيقظ له بجد، فـ محمد بن الحسن كان يرش الماء في وجه أسد بن الفرات حتى يستيقظ فيعلمه، يجرعه العلم تجريعاً، فبقي أسد بن الفرات في العراق حتى حوى علم أبي حنيفة عن طريق تلميذه محمد بن الحسن وعاد إلى تونس وبدأ يعلم الناس هناك، ونشر مذهب الإمام مالك، وعلم الناس فقه أبي حنيفة رحمه الله، وخرج بعد ذلك مجاهداً ففتح صقلية واستشهد، هذه قمم في الإنسانية، فـ أسد بن الفرات رحمه الله صار إلى ذلك بالسهر والسفر لأجل العلم.

وهذا سعيد بن المسيب رحمه الله سيد التابعين كان يقول: كنت أرحل للحديث الواحد الليالي والأيام، هناك مجموعة كثيرة من الناس عاصرت الصحابة، لكن ليس كل الناس علماء، وليس كل الناس سعيد بن المسيب رحمه الله.

والإمام البخاري تعلم على يد ألف شيخ سافر إليهم إلى مختلف البلدان في العالم الإسلامي في ذلك الوقت؛ من أجل العلم.

والرازي رحمه الله كان يقول: سافرت ماشياً على قدمي في طلب العلم ألف فرسخ، يعني: (٥٠٠) كيلو يقول: ثم بعد ذلك تركت العدد.

يعني: أنه لم يمش (٥٠٠٠) كيلو وتوقف، لا، وإنما توقف عن العد،

<<  <  ج: ص:  >  >>