للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[قصة ابن الهيثم مع العلم]

لم يكن هذا الجهد من علماء الشرع فقط، لا، بل أيضاً علماء الحياة في تاريخ الإسلام أنجزوا إنجازات هائلة لم تأت إلا بجهد جهيد، وهذا يحتاج إلى محاضرة خاصة، لكن نمر في هذه المحاضرة اليوم على بعض الأمثلة: هذا ابن الهيثم رحمه الله كان من أعظم علماء البصريات في التاريخ، ومن أعظم علماء الضوء، وله اكتشافات مذهلة، وعلى اكتشافاته هذه قامت النظريات العلمية الحديثة كلها، ومن المستحيل أن تجد كتاباً من كتب علم الضوء في العالم لا يُذكر فيها اسم ابن الهيثم، ولا كتاب (المناظر) الذي ألّفه، وليس هذا هو الكتاب الوحيد له، وإن شاء الله سيكون لنا كلام عن ابن الهيثم أيضاً في الدروس القادمة.

فـ ابن الهيثم كانت حالته المادية صعبة، وكانت تأتيه الأموال وتُعرض عليه الأموال وكان مقرباً من الأمراء؛ لأن الأمراء والخلفاء كانوا يقدرون العلم في معظم أيام الدولة الإسلامية، فكانوا يقدّرون ابن الهيثم فيُعطيه الأمير أو الخليفة مالاً، فيرد له المال ويرفض ابن الهيثم رحمه الله، ويقول له: إن أنا ادّخرت هذا المال كنت خازناً عليه، وإن أنا أنفقته كنت وكيلك في إنفاقه، فإذا شغلت نفسي بهذين الأمرين: الادخار أو الإنفاق، فمن ذا الذي يشتغل بعلمي؟! فهو يخاف أن يأخذ هذه الأموال فينشغل بالحفاظ عليها، أو ينشغل بإنفاقها، ويقول: إذا تفرغت لدنياكم فمن يتفرغ للعلم؟! هذه همم عالية، وليس من الفراغ أن يكون عالماً من علماء الأرض رحمه الله، ولكنه أتى من هذا الجهد الذي بذل، يقول ابن الهيثم رحمه الله: وإني ما مُدت لي الحياة باذل جهدي ومستفرغ قوتي في مثل تحصيل هذه العلوم، متوخياً من ذلك ثلاثة أمور: أولاً: إفادة من يطلب الحق ويؤثره في حياتي وبعد مماتي لله رب العالمين.

أي: يفعل هذا الأمر تقرباً إلى الله عز وجل، وسبيل التقرب إلى الله أن تنفع نفسك بهذا العلم وتنفع الناس، ودائماً يأتي العلم على لسان حبيبنا صلى الله عليه وسلم مقروناً بالنفع، فيقول: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له) فبعد موت ابن الهيثم تأتي الحسنات إليه من الناس؛ لأجل ما قدم في حياته من علوم، فهذا هدف من الأهداف الرئيسية له.

ثانياً: أني جعلت ذلك ارتياضاً لي بهذه الأمور في إثبات ما يتصوره ويتقنه فكري من تلك العلوم.

أي: أنه يتلذذ ويتمتع بهذه المسائل العلمية، فهو يعتبرها رياضة له وإمتاعاً لفكره وعقله، فمتعته أن يتعلم، وكلنا سنمر بهذه المرحلة إن شاء الله لو استمرينا في طريق العلم.

ثالثاً: أني أحتسب ذلك ذخيرة وعدة لزمان الشيخوخة وأوان الهرم.

والأخ الذي يقول: أنا يأتيني ملل، أو كما قال لي بعض الإخوة في الدروس السابقة: إنه يبذل جهداً لكن المذاكرة ليست لطيفة؟ أقول له: في البداية يكون الأمر صعباً إلى أن تتقن العلم، فإن أتقنته أحببته، وإن أحببته صعب عليك فراقه، فتبذل الجهد والوقت والفكر في تحصيله بعد ذلك دون عناء، لا تشعر بالمشقة التي يشعر بها أولئك الذين لا يدركون قيمة ما يقرءون ويسمعون.

فـ ابن الجوزي رحمه الله كان يجلس على النهر ويبل الخبز في النهر ويأكله، ويقول: وأجد لذلك لذة عظيمة في حلقي؛ لأني أفعل ذلك ابتغاء تحصيل العلم.

أي: أن هذا الكفاح والتعب من أجل أن أحصل على العلم وأتفرغ له، وهو فقير معدم، ومع ذلك فهو متلذذ بجمع العلم، ومتلذذ بأكل الخبز اليابس المبلل بالماء.

فمن الطبيعي أن تمر بصعوبة، وليس صحيحاً أن أحدكم سيخرج من هنا متحمساً ويكون عليه الأمر سهلاً إلى نهاية الأمر، ولكن ستمر بك صعوبة، وأنا مررت بهذه التجربة بنفسي، فإنني عندما دخلت الكلية أول سنة واجهت صعوبة، يقولون: أول ستة أشهر في الكلية صعبة، فالبداية صعبة، والمواد تحتاج إلى كثير من المراجعة والترجمة فكنت على هذه الحال في السنة الأولى.

ومرت الأيام إلى أواخر السنة الثالثة وبعدها أحببت الطب، ففي السنين الأولى والثانية والثالثة تذاكر؛ لأنك مضطر لتنجح، والعلوم صعبة ومخالفة لما كنت عليه في الثانوية العامة من منهج سهل ومبسط، فأنت قد دخلت في طريق مختلف تماماً، فهناك كثير من الناس كرهت الطريق، ولنا أصدقاء في سنة أولى أو ثانية طب تركوا الكلية ولم يستطيعوا أن يتحملوا هذا الوضع، وهناك آخرون انتهوا من دراساتهم، وهناك آخرون اجتهدوا وفي السنة الثالثة بدءوا بحب المادة، ومن اشتاق للطلب أكثر وأكثر أبدع وتفوق وبرز وسبق، ومن عاش كما يعيش الناس فهو شخص من ضمن الآلاف الموجودين، فلو كانت عندك حمية فستصل إلى درجة الحب للعلم، وهذا في كل الطاعات وليس في العلم فقط، وطلب العلم من أقرب الطاعات وأعظمها، لكن هذه الصعوبة موجودة في جميع الطاعات كقيام الليل، أتظن أن الإنسان الذي يقوم الليل كان سهلاً عليه في البداية أن يقوم الليل؟ يقول أحد التابعين: كابدت قيام الليل عشرين سنة، ثم استمتعت به ب

<<  <  ج: ص:  >  >>