للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[جوانب الخلل التي مكنت لتنحية الشريعة في تركيا]

هذه الدولة في طرفة عين أصابها ما أصابها، كيف حدث هذا؟ كيف جرى هذا؟ هناك جانبان: الجانب الأول: ما يتعلق بنا نحن، فالذي يدرس الفترة الأخيرة من حياتنا، يجد فينا الخلل، فرغم أن تركيا من حوالى خمسة أو ستة قرون كانت قوية باسم العالم الإسلامي الكبير، كانت هناك أمراض خطيرة موجودة.

الجانب الثاني: ما فعله الأعداء، فقد خططوا لهذه القضية، ومن يراجع أقوالهم ويقرأ أخبارهم في القرون الثلاثة الأخيرة، يجد نصوصاً صريحة تدل على أنهم يخططون للقضاء على الأمة الإسلامية بعد أن فشلت الحروب الصليبية في القضاء على الأمة الإسلامية، وعرفوا أنه ينبغي أولاً حتى يستطيعوا أن يسيطروا علينا -والعداء بيننا وبينهم مستحكم- أنه لا بد من أن يبعدونا عن ديننا وعقيدتنا.

عرفوا أن الأمة الإسلامية إذا كان رجالها ونساؤها وأبناؤها ملتصقين بالإسلام فلن يبيعوا هذا الدين، ولن يبيعوا أمتهم، ولن يبيعوا أوطانهم، ولا يمكن أن يضعوا أيديهم في أيدي أعدائهم؛ لأن القضية فيها جنة ونار، فيها غضب الله ورضوانه، تذكرون كلمة غلادستون في مجلس العموم البريطاني عندما رفع المصحف في يده وقال: ما دام هذا القرآن يتلى في الشرق فلن نستطيع أن نفعل شيئاً، والحاكم العسكري في الجزائر عندما وقف بعد مرور مائة سنة على احتلال فرنسا للجزائر قال: لا يمكن أن نسيطر على هؤلاء في هذا البلد حتى نزيل القرآن من قلوبهم، وحتى ننهي اللغة العربية من هذه الديار، كانوا يعرفون أن هذا هو المقتل الذي يجب أن يصيبونا فيه.

ثم حدثت الهزائم العسكرية التي تصيب الإنسان بنوع من الإحباط، ويظن الجهال أن الأعداء انتصروا لأنهم يزنون، ولأن نساءهم عاريات، كما يقول العلامة ابن خلدون في مقدمته: المغلوب مولع بتقليد الغالب، ويظن أن كل ما يفعله الغالب هو سبب انتصاره، ولو كان يفجر ويفسق ويزني، لظن أن هذا هو سبب النصر، وفينا من يقول: ينبغي أن نقلد أوروبا في كل شيء، وخرج هذا الجيل المهزوم بعد أن هزمنا عسكرياً ثم هزمنا نفسياً، خرج أناس من هذا الجيل ينادون بأن علينا أن نأخذ بالحضارة الأوروبية بخيرها وشرها، وحلوها ومرها! ركز الكفار على هذا الجانب من خلال هزيمتنا، وجئنا بما يسمى بنهضة الأمة الإسلامية، فلم نزدد إلا تأخراً ولم نزدد إلا هزيمة، وما تقدمنا إلى الأمام أبداً.

حرص الكفار أن يأخذوا رجالاً منا من القرن الماضي، ويدرسوهم على أعينهم، ويغرسوا فيهم أفكارهم، ورجع إلينا هؤلاء أساتذة، وباحثين وخبراء، ولكن بفكر أعدائنا، كان يركز عليهم تركيزاً شديداً جداً، فإذا هم بوق من أبواقهم في ديارنا، ثم سلمت إليهم المراكز العليا في الجامعات والمدارس ووزارات التربية والتعليم، بل من الحكام من أثر عليهم في هذا المجال، وخاصة في المؤسسات التي يتخرج أصحابها ليكونوا قضاة، ففي كليات الحقوق وضعت لها مناهج بعيدة عن الشريعة الإسلامية، ووضع لها مدرسون ابتداءً من غير المسلمين، ثم المدرسون الذين تخرجوا من الجامعات الأوروبية رجعوا ليدرسوا في مدرسة الألسن في القاهرة التي أصبحت فيما بعد كلية الحقوق.

وخرج أجيال لا يفقهون الشريعة الإسلامية، ولا يفقهون القضاء الإسلامي، اقرءوا مقدمة الشيخ عبد القادر عودة في كتابه: التشريع الجنائي، وكتاب: الإسلام وأوضاعنا القانونية، وكيف أنه كان جاهلاً بالشريعة الإسلامية ولا يعرف عنها شيئاً، وكان قاضياً يقضي بما تعلمه في مدرسة الحقوق، وكان الذي لفت نظره ذكريات كان يعرفها من قراءته في السيرة: أن الحاكم الفلاني فعل كذا، والحاكم الفلاني فعل كذا، والقاضي الفلاني فعل كذا، فلما رجع إلى كتب الفقه وجد ثروة ما كان يعرفها ولا سمع بها، ولا قرأها، وكانت مسيرة مباركة قرأ فيها الفقه الإسلامي، وتحول إلى الإسلام تحولاً عن قناعة وعلم، وأخرج لنا هذا الكتاب الذي لم يكتب مثله -في غالب ظني-، وكان من أسباب قتل عبد القادر عودة كتابه: الإسلام وأوضاعنا القانونية، وأوصي بأن يقرأ هذا الكتاب قراءة متفحصة؛ لأنه أعلن الثورة على القوانين الوضيعة بشكل سافر، فهو يريد أن يهدم بالصراحة بناءً بناه الكفار في قرون.