للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[انشغال القلب بالدنيا]

فمن أهم الأسباب: أن يشغل الإنسان قلبه بالدنيا.

وأنا لا أعني أن يشتغل الإنسان بالدنيا، فتلك طبيعة الإنسان، وذلك منهج الله، فنحن نعمل في الدنيا للآخرة، ونأخذ حظنا من الدنيا، ونأخذ حظنا من الآخرة، ولكن لا نريد أن تنشغل هذه القلوب بحيث تتعلق بالدنيا تعلقاً يعبِّدها لهذه الدنيا.

والرسول صلى الله عليه وسلم سمى هذا الانشغال عبودية فقال: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة)، ونحن كلنا نلبس ونحرص على أموالنا، والقرآن أمرنا بذلك، فليست القضية أن يشتغل الإنسان بالدنيا، وإنما أن يتعلق قلبه بها فتصبح هي مدار حياته يدور بها كما يدور الحمار بالرحى.

وقد يقوم هذا الإنسان ببعض الأعمال للإسلام لكن قلبه متعلق بالدنيا، هي التي تسيِّره وهي التي توقفه، إن أعطي منها رضي، وإن لم يعط منها سخط، فدنياه ذات تأثير كبير عليه أكثر من تأثير دينه عليه.

فهذا الإنسان في خطر كبير، وينبغي أن يتدارك نفسه فيعالجها، وذلك بأن يعلم قيمة الدنيا كما وصفها الله في كتابه، ويعلم قيمة الآخرة، وينظر في قصر الدنيا وفي طول الآخرة كما بينه القرآن الكريم، ومن ذلك على سبيل المثال قوله جل وعلا: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:١٤ - ١٦].

حتى إن الانشغال الدنيوي الذي ليس فيه شغل قلبي قد يقسي القلوب، ففي بعض الأحيان يحتاج القلب إلى علاجه السريع، وهو ألا يغفل المسلم عن ربه وعن ذكره وعبادته.

(لقي حنظلة أبا بكر فقال: يا أبا بكر! نافق حنظلة.

قال: وما ذاك؟ قال: نكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيذكرنا بالجنة والنار وكأنهما رأي عين، فإذا رجعنا إلى أهلينا عافسنا الأزواج والأولاد ونسينا كثيراً.

قال: إني لأجد مثل الذي تجد، فانطلقا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له حنظلة: نافق حنظلة يا رسول الله! قال: وما ذاك فأخبره، قال: يا حنظلة! لو تدومون على ما أنتم عليه معي في الذكر لصافحتكم الملائكة) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

والشاهد: أن الإنسان حين ينشغل بهذه الأمور يجف أحياناً ما يستشعره من إيمان، فيقسو قلبه شيئاً ما، فهذا شيء طبعي، لكن ينبغي له أن يعالج.

ولذلك شرع الله لنا أن نعمل في دنيانا ثم نعود إلى الصلاة، وهذا من حكمته سبحانه، فما يكاد الإنسان ينشغل في الدنيا حتى يعود إلى صلاة الظهر، ثم يعود إلى صلاة العصر، ثم يعود إلى صلاة المغرب، ثم إلى صلاة العشاء، وهو مع ذلك يذكر الله في أثناء عمله فلا يدع قلبه يقسو ويتأثر تأثراً كبيراً بالدنيا.

وينبغي أن يدمن المسلم العبادة وطاعة الله عز وجل، فهذه العبادة التي نتوجه بها إلى الله سبحانه وتعالى -والله غني عنها- ذات تأثير كبير في إصلاح النفوس والقلوب، وفي صلاح القلب صلاح للإنسان، وفي الحديث: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).

ومن أعظم ما يصلح القلوب: منهج التزكية في الإسلام ومن أعظمه: هذه العبادات التي جاء بها الإسلام من صلاة، وصيام، وذكر، ودعاء، واستغفار، وحج، وعمرة، وغير ذلك من العبادات التي شرعها الإسلام، فهي من أهم ما يصلح النفوس ويربيها، وحسبنا في ذلك قول الله عز وجل: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:٢٨]، والطمأنينة شيء عظيم عندما يفقده الإنسان يصبح في حياته كثير من الشقاء، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة)، فالذكر والاستغفار يذهب هذا الذي يصيب القلب من قسوة.

والمقصود: أن يستشعر المسلم من الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقصد أن يذكر الله، وأن يحرص على الذكر بالسبل التي شرعها الله، ومن جملة ذلك الاستغفار.

فما يفعله الإنسان وما يتكلم به أحياناً إذا كان فيه شيء من البعد عن منهج الله أو شيء من الخطأ قد يصيب الإنسان فيغشي قلبه نوعاً ما، فالاستغفار يذهب ذلك، والدعاء كذلك.

ومن جملة هذا أن الصلاة والعبادة والدعاء والاستغفار حصن يقي الإنسان من وساوس الشيطان التي تؤثر تأثيراً سيئاً على قلب الإنسان.

فالحرص على العبادة كما شرعها الله سبحانه وتعالى غذاء ودواء للقلب، ولعله مر على كثير منا مقولة المجاهد الكبير ابن تيمية رحمه الله عندما كان يجلس من الفجر إلى الضحى وهو يذكر الله، والتي ينقلها عنه ابن القيم أنه كان يقول: هذا زادي أي: هذه الجلسة زادي فلو فقدتها فلن أستطيع أن أستمر بقية يومي!