للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[في رياض العابدين]

روى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: (ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف).

لله درهم من مرضى، لا والله بل نحن المرضى، مرضى القلوب.

وعن عطاء بن السائب قال: (دخلنا على أبي عبد الرحمن السلمي وهو يقضى -يعني: ينازع- في المسجد، فقلنا له: لو تحولت إلى دارك وفراشك فإنه أوفر لك، فقال لهم: حدثني فلان عن فلان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال أحدكم في صلاة ما دام في مصلاه ينتظر الصلاة، والملائكة تقول: اللهم اغفر له اللهم ارحمه، فأنا أريد أن أموت في مسجدي) يا ألله! من السبعة الذين يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله: رجل قلبه معلق في المساجد.

قيل لـ نافع: ما كان يصنع ابن عمر في منزله؟ قال: لا تطيقونه: الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما.

وعن محمد بن زيد: أن ابن عمر رضي الله عنهما كان له متراس فيه ماء فيصلي فيه ما قدر له، ثم يصير إلى فراشه فيغفي إغفاءة الطائر، ثم يقوم فيتوضأ ويصلي، يفعل ذلك في الليل أربع مرات أو خمس.

وروى نافع: أن ابن عمر كان يحيي بين الظهر والعصر.

فمن منا فعل ذلك؟! عن الربيع بن خثيم قال: أتيت أويساً القرني فوجدته قد صلى الصبح وقعد في مصلاه، فقلت: لا أشغله عن التسبيح، فلما كان وقت الصلاة -يعني: بعد الشروق- قام فصلى إلى الظهر، فلما صلى الظهر قام فصلى إلى العصر، فلما صلى العصر قعد يذكر الله إلى المغرب، فلما صلى المغرب صلى إلى العشاء، فلما صلى إلى العشاء قام فصلى إلى الصبح، فلما صلى الصبح جلس فأخذته عينه ثم انتبه، فسمعته يقول: اللهم إني أعوذ بك من عين نوامة، وبطن لا تشبع.

رحم الله أويساً ما أعلى همته، يعاتب نفسه على إغفاءة خاطفة، ولهذا يعده الشاطبي ممن يأخذ بما هو شاق على الدوام، ومع هذا لا يعتبر مخالفاً للسنة، بل إنه من السابقين الأولين، ألم يكن سيد العابدين يقوم الليل حتى تتورم قدماه؟! عن أصبغ بن زيد قال: كان أويس إذا أمسى يقول: هذه ليلة الركوع، فيركع حتى يصبح, وكان إذا أمسى قال: هذه ليلة السجود، فيسجد حتى يصبح، كان رحمه الله يقول: لأعبدن الله في الأرض كما تعبده الملائكة في السماء.

أما سيد التابعين في العلم والعمل سعيد بن المسيب فكان كاسمه في الطاعات سعيداً، ومن المعاصي والجهالات بعيداً، عن أبي حرملة عن ابن المسيب قال: ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين، وما نظرت في قفا رجل منذ خمسين سنة، وما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد.

قال رحمه الله: من حافظ على الصلوات الخمس في جماعة فقد ملأ البر والبحر عبادة.

والله لولا الأسانيد الصحاح والرجال الثقات لقلنا: إن هذه الأخبار ضرباً من الخيال، ولكن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ومن لج ولج، ومن وقف على الباب يوشك أن يفتح له.

عن شرحبيل: أن رجلين أتيا أبا مسلم الخولاني فلم يجداه في منزله، فأتيا المسجد فوجداه يركع ويسجد، فانتظراه فأحصى أحدهما أنه ركع ثلاثمائة ركعة قبل أن ينصرف، فقالا له: يا أبا مسلم كنا قاعدين خلفك ننتظرك، فقال: لو عرفت مكانكما لانصرفت إليكما، وأقسم لكما بالله إن خير ما قدم المرء ليوم القيامة كثرة السجود.

عمن أخبرك؟ عن الربيع، أمْ عن عامر بن قيس، أم أسمعك من خبر الحسن والفضيل وابن المبارك، أم أتلو عليك خبر مرة الهمداني.

قال الذهبي: يقال له مرة الخير لعبادته وخيره وعلمه قال الذهبي: بلغنا عنه أنه سجد لله حتى أكل التراب جسده.

عن عطاء بن السائب قال: كان مرة يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة، فلما ثقل وبدن صلى أربعمائة ركعة، وكنت أنظر إلى مباركه كأنها مبارك الإبل.

ومثل هؤلاء كثير ممن نعرفهم وممن لا نعرفهم، لكن الله يعرفهم.

أما مسروق العالم بربه الهائم بحبه، فقال عنه ابن إسحاق: حج مسروق فما بات إلا ساجداً.

قال سعيد بن جبير: لقيني مسروق فقال: يا سعيد! ما بقي شيء يرغب فيه إلا أن نعفِّر وجوهنا في التراب، وما آسى على شيء إلا على السجود لله تعالى.

كانت امرأة مسروق تقول: والله ما كان مسروق يصبح ليلة من الليالي إلا وساقاه منتفختان من طول القيام، وكنت أجلس خلفه فأبكي رحمة له.

وكان رحمه الله إذا طال عليه الليل وتعب صلى جالساً، ولا يترك الصلاة، وكان إذا فرغ من صلاته يزحف كما يزحف البعير من الضعف.

إن الذي قاد هؤلاء وأوصلهم إلى ما هم عليه تلك الهمم العالية والنفوس الأبية.

قال السعدي في أبيات جميلة يصور سيرهم وحالهم: سعد الذين تجنبوا سبل الردى وتيمموا لمنازل الرضوان فهم الذين أخلصوا في مسجد متشرعين بشرعة الإيمان وهم الذين بنوا منازل سيرهم بين الرجا والخوف للديان وهم الذي ملأ الإله قلوبهم بوداده ومحبة الرحمن.

أقول: من أراد الوصول فعليه بالأصول، ومن سار على الدرب وصل