للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من مظاهر ضعف الإيمان: التحسر على أمور الدنيا أكثر من أمور الآخرة]

إن الإيمان ليخلق في قلب الرجل، وإنه يضعف ويقوى، فلماذا -أحبتي- نندم على أمور الدنيا إذا فاتت ولا نتحسر على أمور الدين؟! ومن الذي إذا استيقظ وقد أشرقت الشمس وطارت الطيور بأرزاقها -كما يقولون- تحسّر وندم، فقد فاز المصلون، وفاز أولئك الذين دخلوا في ذمة الله في ذلك اليوم؟! وكم من إنسان استيقظ بعد شروق الشمس ولا يوجد في قلبه حسرة ولا ندامة على ما فاته، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش).

يقول أحدهم: دخلت على رجل في مكتبه في الوظيفة فإذا على وجهه من آثار الهموم والغموم ما الله به عليم، فقلت في نفسي: هذا أصابته مصيبة عظيمة إما في أهله أو في ماله، فآثار هذه المصيبة ظاهرة وبادية في وجهه، فقلت له: يا فلان! خيراً إن شاء الله -فمن حق المسلم أن يعزي أخاه-، فقال: اسكت إنها فرصة لا تعوض، قلت: يا رجل! كل شيء يعوض إلا العمر إذا مضى، قال له: يا رجل! فرصة العمر ما تعوض، قلت: خيراً إن شاء الله، قال -واسمع ما قال-: أرض تجارية في موقع تجاري عليها تصريح لستة أدوار، والدور الأول كله محلات تجارية، وقد بيعت بثمن بخس وثمن زهيد، فقلت في نفسي: إنا لله وإنا إليه راجعون، على هذا يتحسر المسلمون اليوم؟! على هذا يندم المسلمون اليوم؟! قلت له: يا رجل! ما كتبها الله لك، أما قال الله: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:٢٣]، فاسمع على ماذا نبكي، واسمع على ماذا نتحسر.

واسمع عن بكائهم وتحسرهم في لحظات احتضار فهذا معاذ أعلم الأمة بالحلال والحرام، اسمع تزكية النبي له وهو يقول له: (والله إني لأحبك يا معاذ)، إنها تزكية النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الشاب الذي بنى البنيان وحافظ عليه حتى ساعات الاحتضار.

وعند ساعات احتضاره بليل قال لابنه: أصبحنا؟ قال: ليس بعد، فسأله بعد حين فقال: أصبحنا؟ قال: ليس بعد، ثم قال له مرة ثالثة: أصبحنا؟ قال: نعم، فقال: اللهم إني أعوذ بك من ليلة صبيحتها إلى النار، ثم لما ازدادت سكرات الموت وأتت ساعة الاحتضار، أخذ ينادي ربه، ويتضرع إليه ويدعوه قائلاً: اللهم إنك تعلم أني كنت أخافك وأنا الآن أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا لطول البقاء، ولا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لصيام الهواجر، وقيام الليل، ومجالسة العلماء، فاسمع على ماذا يتحسر ويندم، إنه يتحسر على قيام الليل وعلى صيام الهواجر، وعلى مجالسة أهل العلم والفضل: النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها فالقضية قضية بناء، فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها.

وكثير من يفعل الطاعات لكن قليل من يترك المحرمات، وأصبحت القضية قضية هدم وبناء في نفس الوقت، يبني ويهدم، ويبني ويهدم، وهكذا لا يكتمل البنيان أبداً.