للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بمصيبة موت النبي تهون المصائب]

أحبتي! مصائب وآلام أردت اليوم أن أخففها، فأذكر نفسي وإياكم أنه ما من مصيبة إلا وهناك أعظم منها، وما من بلية إلا وهناك أطم منها، وإذا تذكرنا المصائب العظام هان علينا ما دون ذلك، فلن يضر الأمة موت فلان أو فلان، فقد فقدت الأمة قبل هؤلاء محمد بن عبد الله عليه صلوات الله، نعم كل المصائب تهون عند هذه المصيبة، قال أبو الجوزاء: كان الرجل من أهل المدينة إذا أصابته مصيبة جاء أخوه فصافحه، وقال: يا عبد الله! اتق الله، فإن لك في رسول الله أسوة حسنة.

تذكرت لما فرق الدهر بيننا فعزيت نفسي بالنبي محمد وقلت لها إن المنايا سبيلنا فمن لم يمت في يومه مات في غد عباد الله! كانت الجمادات تتصدع من ألم مفارقة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكيف بقلوب المؤمنين؟! كان في مسجده صلى الله عليه وسلم جذع نخل يتكئ عليه عندما كان يخطب، فأقاموا له منبراً ليقوم عليه، فلما خطب على منبره الجديد حن الجذع وبكى، وصاح كما يصيح الطفل، فنزل إليه صلى الله عليه وسلم فاعتنقه، فجعل يهدأ كما يهدأ الطفل الصغير الذي يسكن عند بكائه، فقال بأبي هو وأمي: (لو لم أعتنقه لحن وبكى إلى يوم القيامة)، وكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى وقال: هذه خشبة تحن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه.

روي أن بلالاً كان يؤذن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم قبل دفنه، فإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ارتج المسجد بالبكاء والنحيب، فلما دفن صلى الله عليه وسلم ترك بلال الأذان، ما أمر عيش من فارق الأحباب، خصوصاً من كانت رؤيته حياة للألباب، لقد أدرك المسلمون عظم المصيبة التي أصابتهم بفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم، وأيقنوا أن أبواب الشر قد انفتحت عليهم، وأن الفتن آتية لا محالة، وأن اللحظة التي طالما انتظرها أهل النفاق قد حان زمانها.

أخرج الحاكم عن ابن عمر مرفوعاً: (ليغشين أمتي من بعدي فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا قليل).

صححه الألباني رحمه الله، ولقد أشار محمد بن إسحاق بكلمات صادقة وتصوير رائع إلى الآثار التي أعقبت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، والحالة التي أصبح عليها المسلمون بعد فراقه صلوات ربي وسلامه عليه فقال: ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب، واشرأبت اليهودية والنصرانية، ونجم النفاق، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية؛ لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم، قلت أنا: يا لله! كيف لو رأى حالنا؟! وماذا صنعت بنا اليهودية والنصرانية بتعاونهم مع المنافقين والخائنين؟! قال القرطبي مبيناً عظم هذه المصيبة وما ترتب عليها من أمور: من أعظم المصائب المصيبة في الدين كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أصاب أحدكم مصيبة، فليذكر مصابه بي، فإنها أعظم المصائب).

صدق بأبي هو وأمي؛ لأن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم من بعده إلى يوم القيامة، فبموته انقطع الوحي وماتت النبوة، وكان أول ظهور الشر بارتداد العرب، وكان أول انقطاع الخير ونقصانه.