للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الصديق يوجه الجيوش إلى فارس والروم]

وبعد أن انتهى خالد من تلك المعركة انتقل إلى أرض معركة أخرى، فقد رأى أبو بكر أن فارس والروم بدأوا ينفشون ريشهم ويتعرضون لوفود المسلمين هنا وهناك، فكان لابد أن يعلموا أن لهذا الدين رجالاً، فأرسل الجيوش إلى العراق وإلى الشام، فأرسل أبا عبيدة وكبار الصحابة على رءوس كثير من الجيوش.

ولما وصل خالد إلى العراق بدأ يرسل الرسل، ويكتب الكتب إلى ملوكها وسلاطينها، وكان مما كتب لهم: من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فله ما لنا، وعليه ما علينا، وإلا فإني أتيتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة، ويرغبون في الآخرة كما ترغبون أنتم في الدنيا.

وهذا هو الفرق بيننا وبينهم، وصدق نبي الهدى والرحمة حين قال: (تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: يا رسول الله! أو من قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، وليوشكن الله أن ينزع من صدور أعداءكم المهابة، ويقذف في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: حب الدنيا وكراهية الموت).

فهذا هو المرض الذي تعاني منه الأمة في هذه الأيام، فكان أبو بكر يرسل الرسل، ويرسل الجيوش ويقول لهم: احرصوا على الموت توهب لكم الحياة.

سبحان الله! لقد حرصوا على الموت فسادوا على مشارق الأرض ومغاربها، فبدأ خالد انتصاراته في العراق بدءاً بذات السلاسل، وانتهاء بالفرات في أعلى العراق.

وبدأت الروم تجمع فلولها فسمع أبو بكر بالخبر، فقال: ليس لها إلا خالد، والله! لأنسين الروم وساوس الشيطان بـ خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، فأرسل إليه يأمره بالتوجه من العراق إلى الشام، فقطع المسافة في مدة قصيرة على أرض لم يقطعها قبله إنس ولا جان، فالرجل على أتم الاستعداد للبذل والعطاء مهما كان الثمن، فما أحوجنا لمثل هؤلاء الأبطال.

فلما وصل خالد إلى الشام جمع الجيوش، ووحد الصفوف، وتلا عليهم القرآن، وذكرهم بالله وبالدار الآخرة، وذكرهم بفضل الشهداء عند الله جل في علاه، وما أعده الله لهم في جنات النعيم، وبين لهم أن الله اشترى وهم باعوا الأنفس والأموال على أن يكون الثمن الجنة، وما أعظمها من صفقة، وعد سابق وعهد صادق، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:١٢٢]، {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:٦].

فذكرهم خالد بالله وقال لهم: هذا يوم من أيام الله أخلصوا فيه الجهاد لله، واطلبوا الله والدار الآخرة في جهادكم هذا، ثم نزع حب الإمارة من قلوب الرجال فقال: الإمارة بيننا وبينكم يتولاها كل رجل منا يوماً، فلقد ظنوا أن المعركة ستطول؛ لأن تعداد فلول الكفار أكثر من مائتين وأربعين ألفاً، وفي المقابل فئة قليلة لا تتجاوز الثلاثين أو الأربعين ألفاً لكن قلوبهم مليئة بالإيمان، ففي ليلة المعركة كانوا قياماً يقرأون سورة الأنفال، في ثبات واستعداد للبذل والتضحية، فهناك وعد من الله إذا تضرعوا واستغاثوا: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:٩].

فإذا كان الأعداء الآن عندهم قنابل ومدافع ودبابات فإن الله تعالى قد أيدنا بإسرافيل وميكائيل وجبرائيل، وأيدنا بملائكته تقاتل مع المؤمنين، فماذا تصنع أسلحتهم مع جنود الرحمن؟