للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أترضى أن تكون مثل هذا]

شاب صالح يقول: كان لي قريب بعيد، قربة النسب وأبعده الدين، وبحكم اطلاعي على دقائق حياته وتفاصيل أيامه تأكد لي أنه لا يصلي مطلقاً ومثله كثير، فنصحته مرات ومرات لعله يتعجل في إصلاح أمره، ويستقيم في صفوف المصلين، ولكنه كان يقدم ويؤخر، ويظن أن العمر طويل والحياة دائمة، هلك المسوفون، والمسوف الذي يقول: سأتوب وهو مصر على الذنب، وكم قلت له: كم ستعيش عشرين ثلاثين بل ثمانين ثم ماذا؟! لابد من الرحيل من دار الغرور، طالت بك الأيام أم قصرت عنك الليالي.

وفي ليلة لم يتوقعها في ليل مظلم، استحوذ عليه الشيطان فأنساه ذكر الله، فأطلق لقدميه تركض في أوحال المعصية، وأوزار الجريمة، فألهته الأماني، وغرته نسمة الحياة وبهجة الدنيا، ومثله كثير، {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة:١٩] وفجأة على غير موعد نزل به نازل، وطرق بابه طارق، ولم يكن هذا الضيف ليزوره إلا هذه المرة فحسب، ولكنها زيارة ثقيلة مؤلمة، إنه الزائر الذي لا يرد، حاول أن يؤخره أن يؤجله فلم يستطع، أراد أن يتفاهم معه فلم يستطع، أراد أن يدفعه بالدواء والطبيب، بالمال والأولاد فلم يستطع حاول بكل الوسائل الدفاعية فلم يستطع {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:٥٤].

انتهى كل شي، هوت آمال عظام وأحلام كالجبال، حشرج الصدر، وضاقت الأنفاس، وغادرت الروح وأمامه أسئلة صعاب، وجنة ونار، هلك المسوفون.

يقول الشاب: لم يكن هو أول من غادر الحياة بهذه السرعة من أسرتي، ولم يكن هو الشاب الوحيد الذي فقدناه، ولكن كان لحياته فجيعة ولموته عبرة، وكان يوم موته وتغسيله والصلاة عليه ثم دفنه يوماً مشهوداً غاب عن كثير وكنت أولهم، فكيف أصلي على من حرم الله عز وجل ورسوله الصلاة عليه؟ لم أصل عليه طاعة وعبادة لله حتى تم كل شي.

يقول الشاب: ثم اجتمعت وأقاربي في مجلس ضم الكثير منهم، وأكثرهم عالم بأمور الدنيا جاهل بأمور الدين، كما قال الله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:٧]، فقام أحدهم شاهراً سيفه، ومصوب سهمه، ورافعاً صوته باستغراب يملؤه الاستهزاء، وهو يسمع الجميع: أين أنت عن صلة الرحم والقيام بالواجب؟ فهاهو فلان قد مات ولم نر لك أثراً، ولم نعلم لك مكاناً! اتجهت نحوي العيون بالعتاب، وتحركت الأيدي تلوم والألسنة تقول: أين أنت عن واجب الصلاة والعزاء؟ وأضاف أحدهم مستهزأً تصلي وتصوم ولا تعرف حقوق القريب وواجبات الأسرة، وأخذ المجلس يتحدث ويقول وأنا لا أرد عليه.

حتى إذا أفرغوا سهامهم وانتهوا، قلت للمتحدث الأول بصوت يسمعه الجميع: ما رأيك لو صليت صلاة المغرب أربع ركعات هل يجوز ذلك؟ سكت ولم يجب، وهو يحرك حاجبيه ويهز يده باستغباء عجيب، كررت وأعدت السؤال وطلبت الإجابة منه بصوت مسموع حتى يسمع المجلس، قال لي بعد تكرار السؤال عليه ثلاث مرات: لا يجوز، قلت له: أحسنت هذا أمر الله ورسوله، فنحن نطيع الله في هذا ونطيع رسوله صلى الله عليه وسلم، إن الكتاب والسنة يأمرانا أن لا نصلي على من مات وهو لا يصلي، وسماه كافراً، رفعت صوتي -والحق يعلو ولا يعلى عليه- وأنا أفرغ سهماً من كنانتي، هل أسمع كلام الله ورسوله وأطيع أمرهما؟ أم أسمع كلامك أنت وهراك.

استدرت نحو المجلس وأنا أقول: أمرنا أن لا نصلي على من مات وهو تارك للصلاة، ولا نغسله، ولا ندفنه في مقابر المسلمين، ولهذا لم أصل عليه سمعاً وطاعة لله ورسوله، خيم الصمت على المجلس وأغمدت السيوف، فقد ظهر الأمر واضحاً جلياً، {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:٨١].

يقول الشاب: مرت شهور فإذا كثير من شباب أسرتنا وقد سمع ورأى هذا الموقف يعيد حساباته، ويراجع أفعاله، ويخشى أن يمر عليه يوم لا يجد فيه من يصلي عليه، لقد كان هلاك هذا القريب رحمة لمن بعده، وعبرة لمن خلفه، ولا يزال يتردد في جنبات المسلمين قول الله عز وجل: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:٨٤]، وقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر).

فقل لي بالله: كيف حال الشباب اليوم مع صلاتهم؟! حال عجيبة: قسم لا يصلي ولا يركع لا بليل ولا بنهار، وقسم يقدم ويؤخر، وقسم يصلي متى ما شاء وكيف ما شاء {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:٤ - ٦]، أما آن لهؤلاء أن ينتظموا في صفوف المصلين، وينضموا إلى قوافل العائدين.

خل إدكار الأربع والمعهد المرتبع والضاعن المودع وخل عنه ودع واندب زماناً سلفا سودت فيه الصحف ولم تزل معتكفاً على القبيح الشنع كم ليلة أودعتها مآثماً أبدعتها لشهوة أطعتها في مرتع ومضجع وكم خطىً حثثتها لخزية أحدثتها وتوبة نكثتها لملعب ومرتع وكم تجرأت على رب السموات العلى ولم تراقبه ولا صدقت فيما تدعي وكم غمطت بره وكم أمنت مكره وكم نبذت أمره نبذ الحذاء المرقع وكم ركضت باللعب وفهت عمداً بالكذب ولم تراقب ما يجب في عهده المتبع فالبس شعار الندم واسكب شآبيب الدم قبل زوال القدم وقبل سوء المصرع واخضع خضوع المعترف ولذ ملاذ المقترف واعص هواك وانحرف عنه انحراف المقلع إلى متى تسهو وتني ومعظم العمر فني فيما يضر المقتني ولست بالمرتدع قال بعض الحكماء: تعرف توبة الرجل بأربعة أشياء: أولها: أن يمنع لسانه من فضول الكلام، من غيبة ونميمة وكذب.

ثانيها: أن لا يحمل في قلبه حسداً ولا عداوة لأحد من المسلمين.

ثالثها: أن يترك أصحاب السوء ولا يصاحب أحداً منهم.

الرابع: أن يكون مستعدا للموت، نادماً على الذنب، مستغفراً لما سبق من ذنوبه، مجتهداً في طاعات ربه.

يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل ويرى نياط عروقها في نحرها والمخ من تلك العروق النحل فاغفر لعبد تاب من زلاته ما كان منه في الزمان الأول