للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من أخبار المشتاقين إلى بيت الله الحرام]

وإليك بعضاً من أخبار الملبين والمشتاقين: قال الجريري: (أحرم أنس بن مالك من ذات عرق، فما سمعناه متكلماً إلا بذكر الله عز وجل، فقيل له، فقال: يا ابن أخي! هذا هو الإحرام) فكيف لو رأى اشتغال الحجيج اليوم بالقيل والقال وكثرة السؤال، بل بالتدخين والغناء في أحب البقاع إلى الله؟! وحج مسروق فما نام إلا ساجداً.

فلله درهم! عرفوا قيمة الزمان وحرمة المكان.

ووقف مطرف بن الشخير وبكر بن عبد الله المزني في عرفات فقال أحدهما: ما أحلى هذا الجمع، لولا أني فيهم! وقال الآخر: اللهم لا تردهم من أجلي.

رحم الله العابدين، فعلى كثرة علمهم وخوفهم وجهادهم كانوا لا يرون أنفسهم شيئاً.

وفي زحام منى اصطدم رجل بـ سالم بن عبد الله بن عمر، فقال له الرجل: ما أراك إلا رجل سوء، فقال سالم: (والله! ما عرفني إلا أنت) فأين الذين يزكون أنفسهم؟! وهذا الأوزاعي الذي كان بعلم الله واعياً يقول عنه ضمرة بن ربيعة: حججنا مع الأوزاعي سنة خمسين ومائة فما رأيته مضطجعاً في المحمل في ليل ولا نهار؛ بل كان يصلي فإذا غلبه النوم استند إلى القتب.

وروى سليمان بن أيوب فقال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: شهدت ثمانين موقفاً في عرفة، وكان في كل موقف يقول: اللهم لا تجعل هذا آخر عهدي بك وببيتك، فوقف مرة ولم يقل ذلك، فقيل له: لمَ لم تقل؟ قال: استحييت من ربي، فمات من سنته.

كرر علي حديثهم يا حادي فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي قال مالك: أحرم علي بن الحسين، فلما أراد أن يلبي قالها فأغمي عليه وسقط من ناقته وهشم رأسه.

فلله درهم! كم امتلأت قلوبهم خشية ورهبة من ربهم، فلسان حالهم: إليك إلهي قد أتيت ملبياً فبارك إلهي حجتي ودعائيا قصدتك مضطراً وجئتك باكياً وحاشاك ربي أن ترد بكائيا كفاني فخراً أنني لك عابد فيا فرحي إن صرت عبداً مواليا أتيت بلا زاد وجودك مطعمي وما خاب من يهفو لجودك ساعيا إليك إلهي قد حضرت مؤملاً خلاص فؤادي من ذنوبي ملبيا ونقلت الأخبار عن الحافظ البرزالي صاحب التاريخ والمعجم الكبير: أنه كان إذا قرأ الحديث فمر به حديث ابن عباس في قصة الرجل الذي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقصته ناقته وهو محرم فمات فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تغطوا رأسه، وكفنوه بإحرامه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)، أنه كان إذا قرأ هذا الحديث بكى بكاءً شديداً ورق قلبه، فمات رحمه الله محرماً في مكة.

روح دعاها للوصال حبيبها فسعت إليه تطيعه وتجيبه يا مدعي صدق المحبة هكذا فعل الحبيب إذا دعاه حبيبه وأقول: قولوا لمن لم يكن صادقاً: لا يتعنى ولا يتعب نفسه.

ألف ابن القيم رحمه الله كتابه: (مفتاح دار السعادة) بمكة، يقول في مقدمة الكتاب: وكان هذا من بعض النزول والتحف التي فتح الله بها علي حين انقطاعي إليه عند بيته، وإلقائي نفسي ببابه مسكيناً ذليلاً، وتعرضي لنفحاته في بيته وحوله بكرة وأصيلاً، فما خاب من أنزل به حوائجه، وعلق به آماله.

إن الله تفضل عليكم في جمعكم هذا؛ فوهب مسيئكم لمحسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، فادفعوا باسم الله مغفوراً لكم، فسبحان الله كم ترفع في ذلك اليوم من الدعوات! وكم ترفع فيه من الطلبات! وكم تغفر فيه من الذنوب والزلات، اللهم نحن عبيدك فأعتقنا من النار.

إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار وأنت يا رب أولى بذا كرماً فقد شبنا في الرق فأعتقنا من النار قال ابن المبارك: جئت إلى سفيان عشية عرفة وهو جاثٍ على ركبتيه وعيناه تهملان، فقلت له: من أسوأ هذا الجمع؟ فقال: الذي يظن أن الله لا يغفر لهم.

فما أعظم حسن ظنهم بربهم! وهو أرحم الراحمين.

ووقف أحد الخائفين بعرفه فمنعه الحياء من الدعاء، فقيل له: لم لا تدعو؟ فسكت، فقيل له: هذا يوم العفو عن الذنوب، فبسط يديه ووقع ميتاً.

وكان أبو عبيدة الخواص إذا غلب عليه الشوق في ذلك الموقف قال: واشوقاه! إلى من يراني ولا أراه.

فهنيئاً لمن رزقه الله الوقوف بعرفة بجوار قوم يجأرون إلى الله بقلوب محترقة ودموع منسكبة، فكم فيهم من خائف أزعجه الخوف وأقلقه! وكم فيهم من محب ألهبه الشوق وأحرقه! وكم فيهم من تائب نصح لله في التوبة وصدقه! وكم فيهم من هارب لجأ إلى باب الله وطرقه! وكم فيهم من مستوجب للنار أنقذه الله فأعتقه! وكم فيهم من أسير للأوزار فكه الله وأطلقه! وكم فيهم من راجٍ أحسن الظن بالله فوفقه! سبحان من لو سجدنا بالعيون له على حمى الشوك والمحمى من الإبر لم نبلغ العشر من معشار نعمته ولا العشير ولا عشراً من العشر هو الرفيع فلا الأبصار تدركه سبحانه من مليك نافذ القدر سبحان من هو أنسي إذ خلوت به في جوف ليلي وفي الظلماء والسحر فكم من ليلة باتوا فيها على الجوع حتى كادوا يهلكون! وكم من ليلة طاردتهم السباع في الغابات وفارقهم لذيذ المنام، وكم من ليلة أحاط بهم الخوف من كل مكان؛ فقطاع الطرق يعترضون المسافرين في كل وادٍ وفي كل مكان: رب ليل بكيت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه يقول الحاج عثمان: توقفنا للمبيت ليلة قريباً من إحدى الغابات، فلدغتني حية فبدأ سمها يسري في جسمي، وأصابتني حمى شديدة وألم عظيم وحتى شممت رائحة الموت تسري في عروقي، فكان أصحابي يذهبون للعمل وكنت أمكث تحت ظل الشجرة إلى أن يأتوا آخر النهار، وكان الشيطان يوسوس لي: أما كان الأولى أن تبقى في أرضك بدل أن تكلف نفسك ما لا تطيق؟! ألم يفرض الله الحج على المستطيع فقط؟! قال: فأثرت هذه الوساوس في نفسي وبدأت أثقل وأضعف وكدت أرجع إلى أرضي وداري، فلما جاء أصحابي نظر أحدهم إلى وجهي وسألني عن حالي، فالتفت عنه ومسحت دمعة غلبتني، فكأنه أحس بما فيني فقال: قم فتوضأ وصل ولن تجد إلا خيراً بإذن الله؛ أما قال الله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:٤٥ - ٤٦]، قال: فقمت فتوضأت وصليت، فانشرح صدري وأذهب الله عني الحزن، يقول: كان الشوق للوصول إلى بيت الله الحرام قد ملأ قلوبنا، وخفف عنا آلام السفر ومشاق الطريق ومخاطره، وقد مات ثلاثة منا في الطريق وكان آخرهم لما ركبنا السفينة إلى جدة، قال لنا في وصيته: إذا وصلتما إلى المسجد الحرام فأخبرا الله تعالى أني مشتاق للقائه، واسألاه أن يجمعنا ووالدتي في الجنة مع النبي صلى الله عليه وسلم.

يقول الحاج عثمان: لما مات صاحبنا الثالث نزلني هم شديد وغم عظيم، وكان ذلك أشد ما لاقيت في رحلتي فقد كان أكثرنا صبراً وقوة، فخشيت أن أموت قبل أن أنعم بالوصول إلى المسجد الحرام، فكنت أحسب الأيام والساعات على أحر من الجمر.

إذا برقت نحو الحجاز سحابة دعا الشوق مني برقها المتيامن فلما وصلنا إلى جدة مرضت مرضاً شديداً، وخشيت أن أموت قبل أصل إلى بيت الله الحرام، فأوصيت صاحبي إذا أنا مت أن يكفنني في إحرامي، وأن يقربني قدر المستطاع إلى مكة، عل الله أن يضاعف لي الأجر ويتقبلني في الصالحين.

فيوشك أن يحول الموت بيني وبين جوار بيتك والطواف فكم من سائل لك ربي رغباً ورهباً بين منتعل وحافي أتاك الراغبون إليك شعثاً يسوقون المقلدة الصواف قال: فمكثنا في جدة أياماً حتى خف عني المرض، ثم واصلنا المسير على الأقدام، فكانت أنفاسي تتسارع والفرح يملأ وجهي، والشوق يهزني ويشدني إلى أن وصلنا إلى المسجد الحرام، فسكت الحاج عثمان وهو يكفف عبراته وهو يتذكر تلك الذكريات، ثم واصل الحديث قائلاً: أقسم بالله العظيم أني لم أر ولم أشعر بلذة في حياتي كتلك التي ملأت علي قلبي لما رأيت الكعبة المشرفة! يقول: فلما رأيت الكعبة سجدت لله شكراً، وأخذت أبكي من شدة الرهبة والهيبة كما يبكي الأطفال، فما أشرفه من بيت! وأعظمه من مكان! ثم تذكرت أصحابي الذين ماتوا في الطريق ولم يصلوا فأخذت أدعو لهم، وحمدت الله أن بلغني الوصول، وسألت الله ألا يحرمني ولا يحرمهم الأجر، وأن يجمعنا بهم في مقعد صدق عن مليك مقتدر.

يقول: فمكثنا في مكة إلى موسم الحج، فحججنا ثم رجعنا إلى بلادنا بعد أن استمرت رحلتنا أكثر من سنتين، يقول: وها أنا الآن أقص لكم خبر تلك الرحلة التي مضى عليها أكثر من خمسين سنة، الله أكبر! فقد سمعوا منادي الله إذ يقول: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج:٢٧]، وسمعوا منادي الله يناديهم: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:١٣٣] فخرجوا مسرعين وهم يرددون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.

ناداهم مناد الله قائلاً: يا غافلاً عني! أنا الداعي، يا متخلفاً عن زيارتي! أنا ألقى الطائف والساعي، يا مشغولاً عن قصدي لو عرفت اطلاعي، أنا أقمت خليلي يدعو إلى سبيلي: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج:٢٧] أما والذي حج المحبون بيته ولبوا له عند المهل وأحرموا وقد كشفوا تلك الرءوس تواضعاً لعزة من تعنوا الوجوه وتسلم يهلون بالبيداء لبيك ربنا لك الملك والحمد الذي أنت تعلم دعاهم فلبوه رضاً ومحبةً فلما دعوه كان أقرب منهم تراهم على الرمضاء شعثاً رءوسهم وغبراً وهم فيها أسر وأنعم وقد فارقوا الأوطان والأهل رغبة ولم يثنهم لذاتهم والتنعم يسيرون من أقطارها وفجاجها رجالاً وركباناً ولله أسلموا