للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أسباب قسوة القلب]

أحبتي! قسوة القلب مرض عظيم ابتلينا به في هذا الزمان، فأصبحنا نسمع القرآن ولا نتأثر، وندفن موتانا ولا نعتبر، ونسمع المواعظ والعبر ولا نتذكر، والسبب قسوة القلب.

وما من داء إلا وقد أنزل الله له دواء، فدواء قسوة القلب -يا رعاك الله- هو مداومة النظر في كتاب الله بتدبر وتفكر، فإن هذا الكتاب لو أُنزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله.

{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:٢٩] كم فيه من المواعظ والعبر، كم فيه من الآيات والسور؟ لكن كما قال الله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:٧٤].

موعظة بليغة وكلام موجز وعظنا به النبي صلى الله عليه وسلم، أجمع أهل العلم على أن هذه الموعظة من أبلغ مواعظه صلى الله عليه وسلم.

لقد أبلغ في الموعظة وأوجز في الكلام، كلام يسير ولكنه يحملُ معاني كثيرة، ولا عجب فإنه صلى الله عليه وسلم قد أُوتي جوامع الكلم، يقول الكلام القليل فيه من المعاني الشيء الكثير.

فمن مواعظه البليغة صلوات ربي وسلامه عليه قوله: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات).

نعم أيها الغالي! يوم أن غفلنا عن الموت وسكراته، والقبر وظلماته، والسؤال وشدته، ويوم القيامة وكرباته، والصراط وحدته؛ يوم أن غفلنا عن هذه الأشياء قست القلوب -يا رعاك الله- فأصبحت كالحجارة بل هي أشد قسوة.

لذلك قال بأبي هو وأمي: (أكثروا من ذكر هادم اللذات).

ما ذُكر الموت في قوي إلا ضعفه، وما ذُكر في عزيزٍ إلا أذله، وما ذُكر في كثير إلا قلله، الموت: هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حُط ذا عن نعشه ذاك يركبُ نشاهد ذا عين اليقين حقيقة وكأنا بما علمنا يقيناً نكذبُ إلى الله نشكو قسوة في قلوبنا كل يوم واعظ الموت يندبُ نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها وعلّ الردى مما نرتجيهِ أقربُ الموت كما قال أهل العلم: مفارقة الروح الجسد والحيلولة بينهما، انتقالٌ من حال إلى حال، وانتقالٌ من دار إلى دار.

سمّى الله الموت مصيبة، كما قال جل في علاه: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة:١٠٦].

لكن المصيبة الأعظم من الموت -يا رعاك الله- الغفلة عن الموت عدم تذكر الموت عدم الاستعداد للموت، أعظم من مصيبة الموت يا رعاك الله.

لذلك قال أهل التفاسير في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:٢] قالوا: يعني أكثركم للموت ذكراً؛ لأنه من كان للموت ذاكراً كان للموت مستعداً.

قال أبو علي الدقداق: من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاث: أكرم بتعجيل التوبة، ونشاط في العبادة، وقناعة في القلب، ومن نسي الموت عوقب بثلاث: تسويف التوبة، وكسل في العبادة، وعدم قناعة القلب.

إذاً مما يرقق القلوب التفكير في الموت وفي أحواله وفي القبر وظلماته.

لذلك قال بأبي هو وأمي صلوات ربي وسلامه عليه: (ألا إني قد نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة).

يوم غفل الناس عن الآخرة قست القلوب وعُطّلت الصلوات، وارتُكبت المحرمات، وتكاسل الناس في فعل الطاعات.

فيا غافلاً عن العمل وغره طول الأمل الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل قل لي بالله العظيم قل لي يا رعاك الله هل تفكرت يوماً وأنت تخرج في الصباح أنك لن ترجع إلى بيتك مرة ثانية؟! هل تفكرت أن اليوم قد يكون آخر يوم لك في الحياة؟! إذا أتاك ملك الموت في هذا اليوم فهل أنت راضٍ عن نفسك؟! لا تغفل يا رعاك الله! ممن أعرفهم اتصل على أهله في الواحدة ظهراً قال لهم: لقد استأذنت من العمل مبكراً فما هي طلباتكم؟ قالوا: نريد كذا ونريد كذا ونريد كذا، قال: ساعة واحدة وأكون عندكم.

مرت ساعة مرت ساعتان ومرت ثلاث ولم يظهر له أثر، اتصل متصل قُبيل المغرب بقليل يقول: عظم الله أجركم في فلان، في الساعة التي خرج فيها من مكان عمله ارتطمت سيارته بسيارة أخرى وانتقل من هذه الحياة إلى حياة ثانية.

قل لي بالله العظيم: هل كان يظن يوم اتصل على أهله أنه لن يصل إليهم؟! هل كانوا هم يظنون يوم أملوا عليه الطلبات أن الطلبات لن تصل؟! بل الذي يحمل الطلبات لن يصل؟! كان أحد الصالحين يقوم في هزيعِ الليل الأخير، يرقى أعلى مكان في قريته، ثم ينادي بأعلى الصوت: الرحيل الرحيل الرحيل كل يوم يكرر هذه الكلمات القليلة: الرحيل الرحيل الرحيل حتى جاء يوم وانقطع ذلك الصوت.

فقال أمير القرية: أين فلان؟ قالوا: مات.

قال: لا زال يذكر الناس بالموت حتى مات هو.

نعم.

كان يذكرهم بالموت فأتاه الموت، لكن على أي حال أتاه؟! لا زال يلهج بالرحيل وذكره حتى أناخ ببابه الجمّال فأتاه متيقظاً متشمراً لم تلهه الآمال قال أحدهم لصاحبٍ له وكانت حاله سيئة: أبا فلان! الحال التي أنت عليها أترضاها للموت؟! قال: لا والله.

قال: وهل نويت أن تغير هذه الحال إلى حال ترضاها للموت؟! قال: ما اشتاقت نفسي إلى هذا بعد، قال: وهل بعد هذه الدار دار معتمل؟! قال: لا والله.

قال: وهل تظن أن لا يأتيك ملك الموت وأنت على هذه الحال؟! قال: لا والله.

قال: والله ما رأيت عاقلاً يرضى بهذه الحال! ستنقلك المنايا من ديارك ويبدلك الردى داراً بدارك وتترك ما عنيت به زماناً وتُنقل من غناك إلى افتقارك وفي عينيك دود القبر يرعى وترعى عينُ غيرك في ديارك نعم أيها الغالي! لا تغفل عن الموت، فلقد أجمع أهل العلم على أن الموت ليس له مكان معين، ولا زمن معين، ولا سبب معين، ولا عمر معين، يأتيكم بغتة وأنتم لا تشعرون {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:٨] {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:١٩] يعني ذلك ما كنت منه تفر وذلك ما كنت منه تهرب.

طال الزمان أو قصر لابد أن يأتي الموت.

والناس عند الموت على حالين يا رعاك الله.

إما محب للقاء الله فيحب الله لقاءه، وإما كارهٌ للقاء الله فيكره الله لقاءه.

قالت عائشة: (يا رسول الله! كلنا يكره الموت، قال: لا يا عائشة ليس ذاك، لكن هو العبد الصالح تأتيه ملائكة الرحمن تبشره بروح وريحان، ورب راض غير غضبان، فيفرح بلقاء الله، فيفرح الله بلقائه).

أما العبد العاصي أما العبد الغافل أما الذي تناسى الموت وسكراته، فتأتيه ملائكة الرحمن، تبشره بسخط وعذاب من الله، فيكره لقاء الله فيكره الله لقاءه.

قال عمر بن عبد العزيز لجلسائه: أشترط عليكم شروطاً ثلاثة لمن أراد أن يجلس في مجلسي، شروط ليتنا اشترطناها في مجالسنا اليوم، قال: إذا جلستم في مجلسي فأنا أشترط عليكم شروطاً ثلاثة: أولها: لا تتكلموا في الدنيا.

ثانيها: لا تغتابوا أحداً في مجلسي.

ثالثها: لا تمزحوا عندي أبداً.

فكانوا يتذاكرون الموت وسكراته، والقبر وظلماته، حتى إذا انفضوا كانوا كمن قام عن جنازة.

لا عجب! في آخر اللحظات ودع وهو يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:٨٣].

الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة، سيأتي اليوم الذي ستُمدد فيه على فراشك تريد أن تودع الصغير فلا تستطيع تريد أن تودع الكبير فلا تستطيع وحيل بينهم وبين ما يشتهون.

ليت شعري كيف يكون الحال في تلك الساعة، يوم تشخص العينان وتبرد الأطراف واليدان، وتلتف الساقان، تريد أن تتكلم فلا تستطيع، تريد أن تقول فلا تستطيع {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:١٩ - ٢١].