للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مفارقة الأحباب والأصحاب كائنة لا محالة]

الوصية الثانية: (أحبب من شئت فإنك مفارقه)، وكل وصية من هذه الوصايا مرتبطة بالتي قبلها، يقول الله جل في علاه: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:١٤ - ١٧].

فـ (أحبب من شئت فإنك مفارقه)، فيا من تحب الزوجة! وطِّن نفسك على الفراق، ويا من تحب الصبية الصغار! وطِّن نفسك على الفراق، ويا من تحب الأصحاب والأحباب! وطِّن نفسك واستعد للفراق والانتقال من دار إلى دار.

واعلم -بارك الله فيك- أن بعض المحبَّات قد تنقلب إلى عداوات يوم القيامة، فاعرف من تحب -بارك الله فيك-، وما أجمل المحبة في الله! وما أجمل العطاء في الله! وما أجمل البذل في الله! وما أجمل الاجتماع في الله - تبارك وتعالى-! (أحبب من شئت فإنك مفارقه)، فبعض المحبات قد تنقلب إلى عداوات: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:٢٧ - ٢٩].

وقوله: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:٦٧]، فاعرف من تحب.

يمر أقاربي جنبات قبري كأن أقاربي لا يعرفوني وذو الميراث يقتسمون مالي ولا يألون إن جحدوا ديوني وقد أخذوا سهامهم وعاشوا فيا الله! ما اسرع ما نسوني احتضر أحد الصالحين فاجتمع أولاده من حوله، فاجتمعت الزوجة والأبناء والبنات، فقال للزوجة: ما يبكيك؟ قالت: أبكي ترملي من بعدك، وقال للأولاد: وأنتم ما يبكيكم؟ فقالوا: نبكي يتمنا من بعدك، فقال: تباً لكم! كلكم يبكي على دنياي، أما منكم من يبكي على آخرتي؟ أما منكم من يبكي عليّ إذا وُسَّدتُ التراب، وفارقني الأهل والأحباب؟! فاعرف من تحب بارك الله فيك، وهنيئاً لمن أحب القرآن، هنيئاً لمن أحب صيام الهواجر، هنيئاً لمن أحب الدعوة إلى الله، هنيئاً لمن أحب الإخوان في الله ومن أجل الله تبارك وتعالى.

بكى معاذ في ساعات احتضاره، وناجى ربه في تلك اللحظات، ثم قال: اللهم! إنك تعلم أني كنت أخافك، وأنا الآن أرجوك، اللهم! إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا لطول البقاء، ولا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لصيام الهواجر، وقيام الليل، ومجالسة العلماء.

فهم يحبون الدنيا من أجل هذا، فلأي شيء نحب الدنيا؟ ولماذا نحب البقاء؟ فـ (عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه)، فلا بد من الفراق، {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:٢٩ - ٣٠].