للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[الحشر والحساب]

إذا علمنا عباد الله! أن هناك بعثاً فاعلم -رعاك الله- أن هناك حشراً، وهو جمع الخلائق يوم القيامة لحسابهم والقضاء بينهم، وسمى الله ذلك اليوم بيوم الجمع، قال جل شأنه: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:٩]، وقال سبحانه: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود:١٠٣]، وقال جل وعلا: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:٤٩ - ٥٠].

فلا إله إلا الله! فلا إله إلا الله على يوم مثل هذا.

تأمل في قدرة الله التي تحيط بالعباد، فالله لا يعجزه شيء، وحيثما هلك العباد، فإن الله قادر على الإتيان بهم، إن هلكوا في أجواء الفضاء، أو غاروا في أعماق الأرض، أو أكلتهم الطيور الجارحة، أو افترستهم الحيوانات المفترسة، أو ابتلعتهم الحيتان في البحار، قال سبحانه: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:١٤٨].

وكما أن قدرة الله محيطة بعباده يأتي بهم حيثما كانوا، فكذلك علمه محيط بهم، فلا يتخلف منهم أحد، ولا يضل منهم أحد، ولا يشذ منهم أحد، لقد أحصاهم خالقهم تبارك وتعالى، وعدهم عداً، قال جل في علاه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:٩٣ - ٩٥]، وقال سبحانه: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:٤٧].

أما القصد من الجمع -عباد الله- فهو للعرض والحساب، قال جل وعلا: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:٣١]، وقال جل في علاه: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:٦]، وقال جل في علاه: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:١٨].

فلو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعده عن كل شيء نعم عباد الله! إنه العرض والحساب، {لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [إبراهيم:٥١].

عباد الله! أخبرنا ربنا جل وعلا عن مشهد الحساب والجزاء في يوم الحساب فقال: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ} [الزمر:٦٩].

حسبك -عبد الله- أن تعلم أن القاضي والمحاسب في ذلك اليوم هو الحكم العدل قيوم السماوات والأرض، ليتبين لك عظم هذا المشهد وجلالته ومهابته، ولعل هذا الإشراق المذكور في الآية إنما يكون عندما يجيء الملك الجليل للقضاء بين العباد، قال سبحانه: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [البقرة:٢١٠]، وقال: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ * يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:٢١ - ٣٠].

هو مجيء الله أعلم بكيفيته، نؤمن به، ونعلم أنه حق، ولا نؤوله، ولا نحرفه، ولا نكذب به، والآية تنص أيضاً على مجيء الملائكة، فهو موقف جليل، تحضره ملائكة الرحمن، ومعها كتب الأعمال، التي أحصت على الخلق أعمالهم، وتصرفاتهم، وأقوالهم، ليكون حجة على العباد، وهو كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، قال سبحانه: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:٤٩].

ويجاء في موقف القضاء والحساب بالرسل، ويسألون عن الأمانة التي حملهم الله إياها، وهي: إبلاغ الوحي إلى من أرسلوا إليهم، ويشهدون على أقوامهم وما عملوه معهم، ويقوم الأشهاد في ذلك اليوم العظيم، فيشهدون على الخلائق بما كان منهم.

والأشهاد هم الملائكة الذين كانوا يسجلون على المرء أعماله، ويشهد أيضاً الأنبياء والعلماء، كما تشهد على العباد الأرض، والسماء، والأيام، والليالي، تأمل في قول الجبار جل في علاه: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:١ - ٥].

والله إنه لحساب شديد، فسيحاسب فيه الإنسان بالذرة.

عباد الله! يؤتى بالعباد الذين عقد الحق تبارك وتعالى محكمته العظيمة لمحاسبتهم، ويقامون صفوفاً للعرض عليه، {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} [الكهف:٤٨]، ويؤتى بالمجرمين منهم، وهم الذين كذبوا الرسل، وتمردوا على ربهم، واستعلوا في الأرض بغير الحق، يؤتى بهم، مقرنين بالأصفاد، مسربلين بالقطران، قال سبحانه: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم:٤٩ - ٥٠].

ولشدة الهول في ذلك الموقف العظيم، تجثو الأمم على الركب عندما يدعى الناس للحساب، لعظم ما يشاهدون، وما هم فيه واقعون، {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:٢٨ - ٢٩].

إنه مشهد جليل عظيم! نسأل الله أن ينجينا فيه بفضله ومنه وكرمه.