للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سبب ضياع الثقة في المجتمع]

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢].

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:١].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:٧٠ - ٧١].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عباد الله! تولى عمر رضي الله عنه وأرضاه القضاء في عهد أبي بكر، حيث استعان به أبو بكر رضي الله عنه في أول خلافته على تولي القضاء، ومضى عام على تولي عمر هذه المسئولية، ثم جاء يقدم استقالته ويريد أن يعفى من القضاء، فقال له أبو بكر: أمن ثقل المسئولية يا عمر! أردت أن تتخلى عنها؟ قال: لا، ولكن مضى لي عام وأنا في القضاء لم ترفع لي قضية واحدة، ليس لي حاجة بين قوم مؤمنين عرف كل منهم ما له وما عليه.

فهو مجتمع يثق ببعضه البعض، ومجتمع يسعى أفراده إلى إصلاح ذات بينهم فيما بينهم، مجتمع يعرف الحقوق فيؤديها والشعار: الثقة فيما بينه البين.

ولاحظ الفرق! فانظر في محاكمنا اليوم وقد امتلأت بالشكاوى والقضايا حتى بين الأقارب، فساءت أخلاقنا، وساءت معاملاتنا، ولم يعد المجتمع يثق في بعضه البعض.

ومنذ أيام مضت جاءني أحدهم يشكو حاله، ويطلب الإعانة، ويقول: تراكمت علي الديون أكثر من ثمانين ألفاً، ووالله ليس لي فيها يد لا من قريب ولا من بعيد، وإنما أنا أتحملها عن الآخرين، فأين هم الآخرون حتى يؤدوا الحقوق ويحفظوا الأمانات؟! قال: وجاءني قريب من أقاربي فقال لي: أنا في أمسّ الحاجة لشراء سيارة، فقد مضى لي في الوظيفة فترة قصيرة، ومضى لي عن الزواج عهد قريب، فأحتاج إلى السيارة حاجة ضرورية، قلت: وماذا تريد مني؟ قال: تقدمت إلى إحدى الشركات طالباً الشراء بالتقسيط فأبوا وقالوا: إن مدة الخدمة التي خدمتها لا تكفي حتى نبيعك السيارة، قلت: وما الحل؟ قالوا: تصرّف، يقول لقريبه: فما وجدت الحل إلا أن تشتريها أنت باسمك وأنا أقوم بالسداد، يقول: فاشتريتها باسمي، وقام بسداد الشهر الأول والثاني، ثم اختفى عن الأنظار، فبحثت عنه في كل مكان ولم أجده، وتراكمت الأقساط المتأخرة حتى ساءت العلاقة بيني وبين تلك الشركة، ثم رفعوا علي دعوة في الحقوق وطالبوني بسداد القيمة كاملة، طالبوني بسداد ثمانين ألف ريال، وبحثت عنه فقالوا لي: لقد سافر إلى بلد بعيد، فكيف يستطيع السفر ويترك قريبه على هذه الحال؟! فهذه صورة واحدة وإلا فالصور كثيرة ومتعددة، بل قال لي أحدهم: قمت بكفالة من أعرفه تمام المعرفة، وبدأ يتأخر في السداد، والنظام يقول: يؤتى بالكفيل ليقوم بالسداد، ثم يطالب المكفول بسداد حقه، يقول: قمت بسداد ما تأخر عنه مرات ومرات، ثم لما طالبته بحقي قال: إن أباك رجل ميسور وهو يسدد عني، فهذا من أثق به، وأنا وإياه على علاقة طيبة منذ سنوات، يا إخوان! لقد فقدت الثقة فيما بيننا البين.

وجاء رجل يقترض من رجل فقال له: كم تريد؟ وما هي حاجتك؟ قال: حاجتي مبلغ كذا وكذا، قال: متى تستطيع سدادها وخذ الوقت الذي تريده؟ قال: أحتاج إلى ستة أشهر، قال: خذ تسعة أشهر، يقول: الآن مضت سنتان ولم أره من بعدها.

يا أخي! اذهب إليه وقل له: ظروفي لا تسمح، لماذا نهرب من بعضنا البعض؟ ولماذا يخون بعضنا بعضاً؟ لقد أصبحنا لا نثق ببعضنا البعض، وحتى القريب لا يثق في قريبه، فأين هي أخلاق المسلمين؟ إن الذي نعاني منه اليوم حقيقة هو افتقادنا لأخلاق المسلمين في تعاملاتنا، وفي بيعنا وشرائنا، وفي أخذنا وعطائنا، وهناك خلق عظيم لو تخلق به المجتمع لساد الأمن والأمان، وعمت الثقة بين أفراده، إنه خلق الأمانة، وهي ضده الخيانة التي هي من صفات المنافقين.

جاء من حديث أبي هريرة عند البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث -وذكر منها:- إذا اؤتمن خان)، بل أمرنا الله وحثنا على أداء الأمانات فقال تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة:٢٨٣] وذم الله بعض أهل الكتاب فقال: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران:٧٥]، فقد فقدنا الأمانة قبل الثقة فيما بيننا البين.