للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الشفاعة في أرض المحشر]

بينما الناس في ذلك الموقف العظيم إذ نظر بعضهم إلى بعض فقالوا: ألا ترون ما نحن فيه؟! ألا ترون ما قد بلغنا من الهم والغم؟! ألا ترون من يشفع لنا عند ربنا؟! روى مسلم عن أبي هريرة قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في وليمة فأدنيت منه الذراع وكان يحبها، فنهش منها نهشة ثم قال: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، أتدرون لم ذلك؟ يجمع الله الأولين الآخرين فلا يغادر منهم أحداً، فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعي، حتى إذا استووا في موقف أدنيت الشمس من رءوس العباد مقدار الميل، فيغرق الناس في عرقهم) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي ذلك اليوم لا يتكلمون {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه:١٠٩].

وتأمل هذه الأمور العظام التي تحدث بين يدي ذلك اليوم العظيم {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:١٠٥ - ١١١].

فينظر الناس بعضهم إلى بعض، ويقولون: (ألا ترون ما نحن فيه؟ ألا ترون ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا ترون من يشفع لنا عند ربنا؟ فيقولون: اذهبوا إلى آدم.

فيأتون آدم فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسكنك جنته، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول آدم: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني نهيت عن تلكم الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى نوح.

فيأتون نوحاً فيقولون: أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كانت لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم.

فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم! أنت نبي الله وخليله، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله؟ ولن يغضب بعده مثله، وإني كذبت ثلاث كذبات -لو عددناها لعددناها من صالح أعمالنا- ثم يقول: نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى موسى.

فيأتون موسى فيقولون: أنت نبي الله وكليمه، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى عيسى.

فيأتون عيسى فيقولون: أنت نبي الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولا يذكر ذنباً ويقول: نفسي نفسي نفسي).

أتدري من هؤلاء الذين يقولون: نفسي نفسي نفسي؟ هؤلاء هم أولو العزم من الرسل، وهؤلاء أحب الخلق إلى الله، وأخوفهم من الله، وأتقاهم لله، فكيف يكون حالي وحالك؟! وكيف سيكون حال أولئك الذين ما قدروا الله حق قدره؟! وكيف سيكون حال المفرطين والعصاة؟! قال: (فيقول عيسى: اذهبوا إلى محمد، فيأتون محمداً -وفي رواية فيأتيهم- فيقولون: يا محمد! أنت نبي الله وخاتم المرسلين، غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فأقول: أنا لها، فأنطلق إلى العرش فأخر ساجداً، ثم يفتح الله علي من محامده ما لم يفتحه على بشر من قبلي، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب! أمتي، يا رب! أمتي)، فما تخلى الحبيب عن أمته، ولم ينس الحبيب أمته في أشد المواقف، بل نادى بأعلى صوته: (أمتي أمتي) فأين أمة محمد اليوم عن نصرة دينه؟ وأين أمة محمد اليوم عن اتباع سنته؟ وأين أمة محمد اليوم عن الذب عن شريعته، والجهاد في سبيله؟ قال: (فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من ليس عليه حساب من الباب الأيمن من الجنة، وهم شركاء الناس في سائر الأبواب).

ثم قال صلى الله عليه وسلم: (والله! إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر، وليأتين عليها يوم وهي كضيض من الزحام).