للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ثمن الجنة]

كم تُذكر الجنة والنار؟ وكم يحذر الجبار ويرغب؟ فلا عين تدمع، ولا قلب يخشع، ولا أذن تسمع، فما هو الثمن أحبتي؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية إلا إن سلعة الله الجنة).

يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلانِ فأين الثمن أحبتي؟ فاقرأ في سير القوم وما قدموا، وكم بذلوا وضحوا من أجلها؛ لأنها الأمنية التي عاشوا من أجلها، فيمر عليهم نبي الهدى والرحمة وهم يضطهدون ويعذبون فيقول لهم: (صبراً آل ياسر! إن موعدكم الجنة)، وقال: (إن لكم أن تحيوا فيها فلا تموتوا أبداً، وأن تصحوا فلا تمرضوا أبداً، وأن تشبوا فلا تهرموا أبداً).

وأنت الآن في زمن الإمكان والثمن: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:١١١]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف:١٠ - ١١].

إن أحدهم يطعن برمح في ظهره حتى يخرج من صدره، فيتناثر الدم على وجهه، فيمسح وجهه ويقول: فزت ورب الكعبة! والآخر يقول: واهٍ لريح الجنة، إني لأشم ريح الجنة دون أُحد.

إنها الجنة وما أدراك ما الجنة، إنه الإيمان والتقوى والإحسان الذي قاد أولئك الرجال إلى نعيم الله والرضوان.

وهذا حارثة يصبح فيقول له النبي: (كيف أصبحت يا حارثة؟! فيقول: أصبحت مؤمناً حقاً، فيقول له صلى الله عليه وسلم: وما حقيقة قولك وإيمانك؟ فيقول: عزفت نفسي عن الدنيا: فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، ولكأني أرى عرش الرحمن بارزاً أمامي، وكأني أرى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أرى أهل النار يتعاوون فيها)، فيقتل يوم بدر فتأتي أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتقول: يا رسول الله! أين حارثة؟ هل هو في النار فأجتهد وأبكي، أم في الجنة فأفرح له، فقال: (يا أم حارثة! إنها جنان وإن حارثة أصاب الفردوس الأعلى).

فيا بائعاً هذا ببخسٍ معجل كأنك لا تدري بلى سوف تعلم فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم وحتى قلوب النساء كانت معلقة بالجنة، فـ نسيبة الأنصارية الداعية المجاهدة يقول عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (يوم أحد -يوم دارت الدوائر- ألتفت يمنة، فإذا بـ أم عمارة تذود عني، وألتفت يسرة فإذا بـ أم عمارة تذود عني أقول لها: من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟ سليني يا أم عمارة تقول: نسألك رفقتك في الجنة يا رسول الله!).

إنها الجنة يا أحبتي! إنها الجنة التي تقطعت أكباد الصالحين من أجلها، فهذا سعد بن الربيع يسمع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الموقف وهو يقول: (من يرد عنا الرجال وهو رفيقي في الجنة)؟ فما إن يسمع اسم الجنة حتى يطير قلبه، وتتحرك أحاسيسه إنها الجنة التي بايعنا من أجلها، إنها الجنة التي وعدنا يوم العقبة يوم أن تواعد الرجال مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن نحن قدمنا الغالي والنفيس وأظهرك الله ماذا لنا يا رسول الله؟! قال: لكم الجنة، قالوا: مد يمينك نبايعك.

لما سمع سعد بن الربيع اسم الجنة رمى كل ما يثقله وانطلق في صفوف الكافرين يهزهم هزاً، فكان أسداً مقبلاً غير مدبر، فلما رأى القوم بسالته وشدته اجتمعوا عليه حتى أردوه قتيلاً، فكان أول ما انتهى القتال أن سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا صنع سعد بن الربيع؟ من يبحث لنا ويأتي لنا بخبر سعد بن الربيع، يقول أبو موسى الأشعري: فتحسسته وبحثت عنه بين القتلى فوجدته في آخر رمق من الحياة، فقلت له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤك السلام ويقول: كيف تجدك؟ فتهلل وجهه لما سمع اسم النبي صلى الله عليه وسلم وعلم أن القائد حي يرزق فقال: أقرؤه مني السلام، وقل له: جزاك الله عنا خير ما جُزي نبي عن أمته، وقل له: إني لأجد ريح الجنة، ثم اسمع الوصية فهو لم يوص بمال ولا بعيال وإنما قال: (أقرئ قومي الأنصار السلام، وقل لهم: لا عذر لكم أمام الله أن يخلص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف).

إنه الثبات في المحيا وعند الممات، فلما رجع أبو موسى وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر تحركت مشاعر القائد صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة وقال: (اللهم! القَ سعد بن الربيع وأنت عنه راضٍ، ثم قال: رحمك الله يا سعد نصحت للإسلام حياً وميتاً)، إنه الثمن، فالذين اجتهدوا بالطاعات وتقربوا إلى الله بالقربات فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

أما الذين سوفوا وغرتهم الحياة الدنيا وغرهم بالله الغرور فكيف سيكون الحال إذا انقسم الناس إلى قسمين إما إلى جنة وإما إلى نار؟ إن الأمر جد، والخطب جلل، والأمر أعظم مما يتصور الإنسان، {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:٨]، ليجازي المسيء بإساءته والمحسن بإحسانه، قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:٢١].

والناس في هذه الدنيا صنفان لا ثالث لهما: منكم من يريد الدنيا، ومنكم من يريد الآخرة: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:١٨]، والنتيجة هي في قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء:١٨ - ٢١].

فالحقيقة التي لابد منها أن بعد هذه الحياة موتاً وقبراً وبرزخاً، وبعد البرزخ بعثاً وحشراً وحساباً وميزاناً وصراطاً وجنةً وناراً، {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ * إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ * إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:٩٧ - ١٠٤].

أحبتي! عندما قصرنا في النظر إلى كتاب الله، وقصرنا في تدبر آياته، وفي اتباع المنهج الصحيح، وعندما غرتنا الحياة الدنيا وشغلتنا أموالنا وأهلونا أصبحت الحياة لا قيمة لها ولا معنى، فقيمة الحياة تكون بالهدف الذي يعيش الإنسان من أجله، وقيمة الحياة هي في الغاية التي يعيش الإنسان من أجلها: (يا ابن آدم! خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، وعزتي وجلالي! ما اعتصم بي عبد من عبادي وكادته السموات والأرض إلا جعلت له من بينها مخرجاً، وعزتي وجلالي! ما اعتصم عبد من عبادي بغيري إلا أغلقت عليه أبواب السماء، وأزحت الأرض من تحته).

فلتكن الحياة لله وفي الله، وإذا أَنِسَ الناس بالدنيا فافرح أنت بالآخرة، وإذا فرح الناس بالدرهم والدينار فافرح أنت بالله: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى:٣٦]، {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الرعد:١٩]، فأصحاب النهى والعقول هم الذين تدبروا وتفكروا واستعانوا على طاعة الله في عباد الله الصالحين، فهم من طاعة إلى طاعة، ومن قربة إلى قربة، والحياة ممر وطريق والعمر فرصة فاستغلوا الأوقات، واستغلوا الدقائق والثواني قبل أن يأتي وقت الندم والحسرة، فإنك لا تدري أين سيكون اسمك غداً، ولا تدري أنك إذا أصبحت هل تدرك المساء، وأنك إذا أمسيت هل تدرك الصباح.

أحبتي! هذه القصيدة لم تكن على البال، ولم تكن معدة لأقولها في هذا المكان، ولكن بطلب من أحد الإخوة الذين أحبهم في الله، وأشهد الله على حبكم أجمعين، وتلبية له والقصيدة هي للشيخ: سعيد بن مسفر