للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[منن الله على نبيه صلى الله عليه وسلم]

المنة الأولى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى:٦]، أي: يا محمد! قد علم ربك أنك يتيم لا أب لك ولا أم، ومع ذلك آواك ربك، وسخر لك من يكفلك ويرعاك ويقوم على شأنك.

وقد سئل جعفر الصادق رحمه الله: لم يتم رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيه وأمه؟ أبوه مات وهو في بطن أمه، وأمه ماتت لما بلغ السادسة.

قال: لئلا تكون لمخلوق عليه منة، وتبقى المنة لله وحده.

وقال مجاهد بن جبر رحمه الله: اليتيم هاهنا من قول العرب: درة يتيمة، إذا لم يكن هناك مثلها.

المنة الثانية: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:٧]، الضلال هنا قال بعض أهل التفسير: هو عدم معرفة تفاصيل الشريعة.

وقال الرازي رحمه الله: أجمع أهل العلم على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أشرك بالله قط، وحاشاه عليه الصلاة والسلام.

فالضلال هنا مستبعد فيه معنى الشرك والكفر والفسق، وهذا كله قد برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالضلال هاهنا معناه: عدم معرفة تفاصيل الشريعة، كما قال ربنا سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا} [الشورى:٥٢]، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يدري، وهذا هو معنى الضلال في الآية.

وقال بعضهم: ووجدك ضالاً، أي: وجدك محباً للهداية فهداك.

وقال بعضهم: الضلال هنا بمعنى: المحبة، وأنشدوا في ذلك قول كثير عزة: هذا الضلال أشاب مني المفرقا والعارضين ولم أكن متحققا عجباً لعزة في اختيار قطيعتي بعد الضلال فحبلها قد أخلقا بعد الضلال أي: بعد المحبة، لكن لعل هذا المعنى -والله أعلم- بعيد، فالضلال هاهنا معناه الحيرة.

المنة الثالثة: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:٨] أي: وجدك عائلاً فقيراً عديماً ما عندك شيء، وتقول العرب: فلان عائل، وكما في قول جرير: الله أنزل في الكتاب فريضة لابن السبيل وللفقير العائل فالعائل بمعنى: الفقير المعدم.

فالله عز وجل أغنى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وحتى قد مكنه من مفاتيح خزائن الأرض، فكان عليه الصلاة والسلام تأتيه الغنائم والأنفال كأمثال الجبال، ومن الغنى الذي سكن قلبه لا تغرب عليه الشمس إلا وقد وزعها جميعاً، ولا يصطفي لنفسه شيئاً عليه الصلاة والسلام.

وقد نظر بعض الأعراب إلى إبل في واد وهو مذهول من كثرتها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتعجبك؟ قال: نعم.

قال: فهي لك كلها، فالرجل رجع إلى قومه أشبه بالمجنون، وقال لقومه: يا قوم! أسلموا، فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، أي: ليس عطاء معتاداً.

فالله عز وجل امتن عليه بهذه المنن الثلاث: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:٦ - ٨].

وهنا طرح الرازي رحمه الله سؤالاً فقال: أما ذم الله فرعون لما قال لموسى: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} [الشعراء:١٨]، أي: أن فرعون اللئيم يمتن على موسى الكليم بهذا: كنت تأكل من طعامنا وتشرب من مائنا، والله عز وجل هنا يمتن على محمد صلى الله عليه وسلم.

وحقيقة أن سؤال الرازي رحمه الله هذا عجيب، فالله عز وجل لا يسأل عما يفعل.

لكن على كل حال هو طرح هذا السؤال وأجاب بقوله: شتان شتان بين مآن هو الله، ومآن هو فرعون، قال: ثم عاقبة المن مختلفة، ففرعون يقول: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} [الشعراء:١٨]، ومعنى كلامه: فما بالك لا تعبدني ولا تخدمني، والله عز وجل يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:٦ - ٨] فما بالك تقطع عني رجاءك ليستمر رجاؤك لسبق نعمي عليك.